اجتهدت ريما خشيش في إعادة إحياء جزء من حصاد «الصبّوحة» وتَنْديته في ألبومها الأخير «من سحر عيونَك». المقارنة بين أداء الفنّانة الشابة المرهفة و«الشحرورة» لن تكون عادلة بحقّ كلتيهما. تلجأ الأولى إلى تقنيات مختلفة وتتميّز بنبرة ناعمة، فيما يُعدّ صوت صباح قويّاً ومطواعاً، يتقمّص رِفْعة الجبل وروحه، ويندغم في ألوان الطرب الشعبي المصري واللبناني. لا يمكن بتّ جنوحها نحو البوب الذي ناسب حنجرتها ومؤهّلاتها حيناً، وعثّرها حيناً آخر، بعدما كبرت ولم يساعدها مقرّبوها في انتقاء ما يلائمها منه.
لصوت صباح هوية وشخصية مكّنتاها من الانتشار عربياً. بمعزل عن أداء تلوّى وفاض دلالاً في مرحلة محدّدة، رَصُن وعَرُض صوت صباح في عمر مبكّر، وقلّبَ الفولكلور اللبناني بمزيج من الضراوة والطلاقة والعذوبة. النساء اللواتي يؤدين «المعَنّى»، و«القرّادي»، و«الميجانا»، و«العتابا»، و«الشروقي»، والمواويل التراثية الشعبية اللبنانية... عُرفن تاريخياً بأصواتهن المدوّية عموماً، وباستعانتهن بـ«صوت الصدر» voix de poitrine حصراً، لا بـ«الصوت المستعار» (صوت الرأس)، وبنفَسهنّ الطويل. صباح واحدة منهن، لكنّها تجمع بين الخصائص الموروثة وأداء مؤسلب مثّل معبراً بين المحلّي والمتجدّد والعربي الحديث. لا يمكن تناول صوت صباح بمعزل عن شخصيّتها وطبعها، إذ إنّ «أناها» تتكثّف في أدائها؛ من الوقار والظرافة والغنج والتلقائية واللدانة، مروراً بالكرم والفرح و«هوس الاستعراض»... من لا يعرف صباح الإنسانة، لن يتمكّن من تحليل أدائها وتلمُّس تبدُّل ملامح صوتها في انعطافات تجربتها وتشعّباتها. صباح الباذلة تملك صوتاً معطاء، إن لم نقل مبذّراً، يجتاحك حين يتبختر مفرِطاً في ارتجالٍ أو تطريب ذي نكهة محلّية، وقد عرفت كيف تنتقل من الجبليّ إلى المدينيّ وتُزاوج بينهما. أدّت الشعبيّ بشيء من الرقيّ والكثير من العفوية. يمكن وصف معظم أغنياتها بالسهل الممتنع (قبل التسعينيات). تارةً تشعر بأنّ صوتها جامح، وخصوصاً في الغناء التعبيري الحديث (أغنية «ساعات ساعات») والأغنيات الشعبية المتقنة («عَ الندّا» للأخوين رحباني) والقوالب التراثية (أبو الزلف...)، وطوراً بأنّه دافئ ومتقطّر. يتميّز إذاً صوتها بقدرته على التلوّن والتقوْلُب، من دون أن يتجرّد من هويّته وسماته. يمكن المستمع العربي العاديّ أن يكتشف أنّ حنجرةً لبنانية تؤدّي الطرب الشعبي المصري في أغنيات محدّدة («أنا هِنا يا ابن الحلال» مثلاً)، حتّى لو لم يكن يعلم مسبقاً أنّها حنجرة «الشحرورة». نجحت «الصبّوحة» في تأدية أغنيات باللهجة المصرية («زيّ العسل»، و«يانا يانا»...) من دون أن «تُلَبْنِنها» أو تنصهر تماماً في مجموع المغنّيات المصريات والعربيات اللواتي جايلنها. ولعلّ أهمّ ما ميّز أداء صباح في بداياتها، خفّة الحركة على مستوى الزخارف الصوتية، وخصوصاً في اللون البلدي المتطلّب. أمّا أداء ريما خشيش، فلا يبدو مطابقاً لأداء صباح. صاحبة «يا لللّي» تلجأ عموماً إلى «الصوت المستعار» voix de tête ممزوجاً بـ«صوت الحنجرة»، ونادراً ما تستعين بـ«صوت الصدر» وحده. فواصل الغناء التي يخيّل إليك أنّها مرتجلة في ألبوم «من سحر عيونَك»، تطلّبت حتماً الكثير من الجهد والتحضير مسبقاً، ما يتبدّى في جمل وتنقّلات غنائية مدروسة (أغنية «مَرْحَبْتَيْن» مثلاً)، وفي المرافقة الآلاتية المضبوطة. تختلف مساحة صوت ريما عن مدى صوت tessiture صباح. تؤدّي خشيش أغنيات صباح بأمانة، مسبغةً عليها روحها وأسلوبها المعتاد، فيما يبدو أداء صباح أكثر تحرّراً وإطراباً. تتقشّف المغنّية الشابة، وتتقيّد غالباً بقواعد الغناء (الشرقي) المعاصر، وتحصي أنفاسها وتنميقات الغناء، فيما تحلّق صباح عندما تترنّم، ما يمثّل فارقاً جوهرياً بينهما. أكثر ما يشدّ الانتباه هو التفاوت بين صباح وريما لناحية «الأبعاد الصوتية» intervalles، وخصوصاً في الجمل المقامية الحاوية ثلاثة أرباع الصوت، ما يعكس اختلافاً في الأداء ـــ مردّه إلى عوامل عديدة ـــ بين جيلين وحقبتين، ويُظهر حساسيّتين غنائيتين. يُحسب لريما خشيش التي فرضت حضورها في المشهد الغنائي اللبناني مذ كانت صغيرة، تأديتها أغنيات لعملاقةٍ من عمالقة الغناء الشعبي العربي. لا تخلو هذه الخطوة من جسارة ووفاء يميّزان صاحبة «فلك». اختارت ريما أن تؤدّي مجموعة أغنيات لصباح منتقاة من أفلام عدّة («المليونيرة» 1966، و«إغراء» 1957، و«العتبة الخضراء» 1959، و«إزّاي أنساك» 1956...)، فبعثتها. رغم أنّ الألبوم لا يحمل جديداً إلى الأغنية العربية وتجربة ريما، فإنّه يمثّل سباحة عكس التيّار اليوم، ويعرّف جمهور الشباب بنجمة لبنانية خالدة مثّلت أحد وجوه انفتاحنا الأنيق في مرحلة سابقة.


بدأت الحكاية...

علاقة ريما خشيش بصباح ليست قديمة. الفتاة التي اعتلت خشبة المسرح في التاسعة من عمرها، غنّت أمّ كلثوم وفيروز في البداية، ثم غنّت صباح في ما بعد. لكنّها غاصت في عالمها وبحثت في أرشيفها القديم حين طلب منها أن تغنّي «الشحرورة» في احتفال أقيم ضمن «مهرجان دبيّ السينمائي 2010» الذي كرّم صاحب «ساعات ساعات» بعدما بلغ رصيدها أكثر من 80 فيلماً سينمائيّاً.