لن ينسى سعيد البرغوثي مشهد ابن العشرة أعوام، وهو يغادر صفد (تقع في الجليل) إلى الشام، بصحبة خالته، إثر النكبة الفلسطينية الأولى. رحلة قصيرة على الأقدام، لكنها لم تنته حتى اليوم. رائحة الزهور البريّة النادرة عند تخوم بحيرة طبريا، هي آخر ما يتذكره من مسقط رأسه. في حرستا، عند تخوم دمشق، سوف تستقر العائلة الفلسطينية المنكوبة. مرور صاحبنا يومياً من أمام المكتبة الظاهرية، عائداً من مدرسة التجهيز الخامسة، بالقرب من الجامع الأموي، أغراه في الدخول إلى فناء المكتبة العريقة. «أول كتاب وقع بين يديّ، كان «الأيام» لطه حسين. بعده، قرأت «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، وعشرات العناوين الأخرى التي جذبتني إلى سحر القراءة» يقول. انخراطه في السياسة في أواخر خمسينيات القرن المنصرم، ومشاركته في التظاهرات المناهضة للانفصال بين سوريا ومصر، قاداه من كلية الحقوق إلى سجن المزّة. تسعة أشهر في المعتقل وضعته حيال خيارات أخرى. عند هذه العتبة، ستأخذه الحياة إلى دروب غير متوقعة. يعلّق ضاحكاً: «من فشل إلى آخر، في رحلة سيزيفية شاقة، وصخرة ثقيلة، أورثتني ديسكاً مزمناً في عمودي الفقري».

عمل في فندق فترة مؤقتة، ثم أتاه عرض للعمل في الجزائر بعيد استقلالها، لكن عندما همّ باغتنام الفرصة، اكتشف أنه «ممنوع من السفر». بعد معاناة ومكابدة طويلتين، استعاد جواز سفره، وغادر إلى الجزائر منخرطاً في حملة التعريب التي أعلنتها السلطات. هناك، تعرّف إلى خليل الوزير (أبو جهاد)، الذي كان يدير مكتب فلسطين في الجزائر، وانضم إلى حركة القوميين العرب. قضى ثلاث سنوات في بلد المليون ونصف المليون شهيد، ثم عاد إلى دمشق، ليغادرها مرّة أخرى إلى ليبيا. في طرابلس الغرب، أدار استوديو للتصوير الفوتوغرافي، إلى جانب عمله كممثل للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. هكذا، قابل «الأخ العقيد» منذ تسلّمه السلطة. يتذكّر أنّ معمّر القذافي كان متحمساً لأميركا أكثر من حماسته للاتحاد السوفياتي، «لأن الأميركان هم من أهل الكتاب». لقاء آخر مع العقيد بصحبة جورج حبش انتهى إلى وعود بتسليح الثورة الفلسطينية، لكنهم فوجئوا بعد أشهر بترحيلهم الفوري من ليبيا بأمر من العقيد، من دون معرفة السبب. إلى دمشق مرّة أخرى، ليبدأ سلسلة نكسات اقتصادية متلاحقة: «أنشأت معملاً صغيراً للبلاستيك، وآخر للطاقة الشمسية، ثم مطعماً للفلافل.. لكنني كنت أنتهي دوماً إلى الإفلاس. كان الفشل يلاحقني مثل لعنة أبدية، كما أنني لم أجد نفسي في هذه الأعمال». اختلاطه بأجواء المثقفين في دمشق، بحكم عمله في الإعلام، فتح أمامه نوافذ أخرى. نصيحة من صديقه الروائي الراحل غالب هلسا بافتتاح دار للنشر، وضعته أمام مغامرة جديدة. هكذا أسّس «دار كنعان» (1989) كمشروع ثقافي تنويري يعيد إلى الكتاب النوعي مكانته، ويشعل الروح الثورية في الثقافة الفلسطينية من جديد. ركّز في منشوراته على اكتشاف المجتمع الإسرائيلي من الداخل عبر الترجمة، وإبراز الأصوات الإسرائيلية الصديقة للقضية الفلسطينية، إلى جانب إصداره «موسوعة رحلات العرب والمسلمين إلى فلسطين»، إضافة إلى تبنيه معظم أعمال إدوارد سعيد. يستعيد بأسى اضطراره إلى إيقاف صدور سلسلة «قضايا وشهادات» التي كانت أبرز مقترحات تلك الفترة. اجتمع سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف وفيصل درّاج لإطلاق هذا المشروع الحيوي، فاستعادوا طه حسين أولاً، ثم «الديموقراطية، العقلانية، الحداثة»، و«الثقافة الوطنية»، في دراسات وأبحاث معمّقة، تتطلع إلى تأصيل «النهضة الثانية». فجأة غاب سعد الله ونوس، فما كان من أصدقائه إلا أن أصدروا عدداً خاصاً في تحية المسرحي الراحل، ثم رحل عبد الرحمن منيف، فتوقّف المشروع. الناشر الفلسطيني لم يعلن توبته، فالإفلاس الذي يلاحقه، من مهنة إلى أخرى، هو قدره الدائم. «فكّرت دوماً في إغلاق الدار أو بيعها، لكنني كنت أتراجع في اللحظات الأخيرة. حياتي باتت مرتبطة بالكتاب، رغم اغترابه وعزوف القارئ عنه، وخصوصاً إذا كنت صاحب مشروع. هذا أنا... ناشر متعثّر بامتياز» يقول. ويضيف مستدركاً: «أظن أن كل دور النشر الصغيرة مهددة بالإغلاق، نظراً إلى غياب دعم المؤسسات الاقتصادية لها، خلافاً لما يجري في أوروبا مثلاً».
ليست رحلة النشر صورة كاملة للخيبات. هذه المهنة، كما يقول البرغوثي، أتاحت له السفر، واكتشاف مدن وبشر وصداقات، والمشاركة في معظم المعارض العربية والعالمية، رغم الخسائر المتلاحقة. هنا، يسترجع صوراً وذكريات عاشها مع كُتّاب ومثقفين عرب. فقد شهد بيته في الطبقة الأخيرة من مبنى في «حي الروضة» وسط دمشق، سجالات وحوارات صاخبة بحضور شخصيات مثل نوال السعداوي، وشريف حتاتة، وعبد الرحمن منيف، وهاني الراهب، وواسيني الأعرج، ومصطفى الحلاج، وآخرين. «كان بيتي صالوناً ثقافياً مفتوحاً على الدوام لكل الأطياف، قبل أن تخبو أرواح من غابوا، وتنطفئ حماسة الآخرين بسبب هموم العيش والعزلة واحتضار الرغبة».
وسط شتات الذكريات، تبرق صور الراحلين واحداً تلو الآخر. يذكر التشكيلي الفلسطيني مصطفى الحلاج، الذي انتهى جثة متفحمة في محترفه الدمشقي، من دون أن يكمل مشروعه في إنجاز أطول لوحة في العالم، «اللوحة التي باتت كفناً لصاحبها»، كما يمرّ قربه طيفا غالب هلسا، الذي مات وحيداً في دمشق، وعبد الوهاب البياتي الذي حدس بموته، حين أخبر البرغوثي قبل يوم من رحيله بأنه «لم يبق وقت لتأجيل المواعيد. أريد الخروج إلى الشمس والهواء». سيرة الغياب سوف تستدعي جغرافيا فلسطين التي تحوّلت هي الأخرى إلى «مقبرة للغائبين»: غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وإدوارد سعيد، وياسر عرفات، وجورج حبش، ومحمود درويش. عند اسم صاحب «لماذا تركت الحصان وحيداً» سيتوقف مليّاً، فهو «أم الخسارات»، وبغيابه «صارت فلسطين أصغر». يخبرنا عن مشروع ضخم يتعلّق بجمع «مراثي محمود درويش»، وآخر لتوثيق الحوارات التي أُجريت معه طوال حياته. بعد ذلك، يقفز إلى مشاريع أخرى مؤجلة لا يزال يسعى إلى تحقيقها، مثل «الحجاب في التاريخ»، و«الموسيقى الدينية»، و«موسوعة الصوفيّة». لكن متى سترى هذه المشاريع النور؟ يجيب: «الأمر متعلّق بالتمويل». الأسى الذي يغلّف حياة سعيد البرغوثي ينطوي على شخصية أخرى مرحة. الرجل، لمن يعرفه عن قرب، صاحب أكبر مستودع للنكات، وصاحب صوت عذب، كأنّ صناعة البهجة لديه هي المضاد الحيوي لخسائره المتلاحقة، أو لعله يرغب في الانتصار على الخيبة بالضحك...





5 تواريخ

1938
الولادة في صفد (فلسطين)

1989
تأسيس «دار كنعان للنشر»
في دمشق

1990
إطلاق سلسلة «قضايا وشهادات» بإشراف سعد الله ونوس، وعبد الرحمن منيف، وفيصل درّاج

2008
جائزة أفضل دار نشر
من «معرض الشارقة الدولي للكتاب»

2012
يستعد لإصدار
«مراثي محمود درويش»