عقدان ونيّف يفصلاننا عن إطلاق «يوم حرية الصحافة العالمي». كان ذلك في ناميبيا، يوم صدور «إعلان ويندهوك» (1991) الذي توّج مؤتمراً رعته «اليونسكو» آنذاك، حول تعدديّة الصحافة واستقلاليّتها في القارة السمراء. عقدان يمكن أن نقول، بكل أسف، إن حريّة الصحافة تراجعت خلالهما… ليس فقط في العالم الثالث، بل أيضاً في «العالم الحرّ». مع حفظ النسب طبعاً: هناك فرق جذري بين أن تُقتَل وتُسجن وتُهجّر وتعيش في جحيم الرعب والمذلّة، لأنّك تريد أن توصل إلى الناس رأياً مغايراً وحقيقة أخرى… وبين أن تُهمَّش في ممارستك حريّة النقد والتعبير، فلا يبقى لك أي تأثير في اللعبة السياسيّة والاقتصاديّة، أو أي قدرة على الحدّ من الظلم والاستغلال. الإعلام «الحرّ» يعيش أحياناً تحت رحمة الكارتيلات واللوبيّات والطغم الماليّة، ويساء استعماله في التضليل والتزوير وإخفاء الجرائم وتشويه القضايا العادلة وتكييف العقول وقولبة الوعي الجماعي. والإعلام «الحرّ» قد يُسخّر في الدفاع عن منطق القوى المهيمنة ومصالحها. «حريّة» الصحافة نسبيّة إذاً. والخيرات الهابطة علينا، مثلاً، بعد «الربيع العربي»، لدعم الجمعيّات «المستقلّة»، ووسائل الإعلام «الحرّة»، والمشاريع «الشبابيّة»، والمواقع الإعلاميّة «البديلة»، قد تعرقل تقدّمنا على دروب الديموقراطيّة والعدالة والدولة المدنيّة! نفكّر اليوم في كل زملائنا الذين سقطوا، بأولئك القابعين في ظلمة السجون. نفكّر في كيفيّة تجاوز الجدران العملاقة التي تحجب عنّا ضوء الشمس. الصحافة هي الضحيّة المثلى، عند هذا المنعطف الذي يُمنع فيه منعاً باتاً أن تسمّى الأشياء بأسمائها، وأن تُكشف الجرائم، وأن تعكس صفحة الجريدة، أو شاشة التلفاز، أطياف الحريّة. نقف ضدّ القمع الدموي بكل قوتنا، من دون اعتبارات أيديولوجيّة، وخارج المنظار الضيّق للعصبيّات، وبمعزل عن المصالح الآنيّة والمزايدات الكاذبة. نقف ضدّ قمع مترف، دمويّ هو الآخر ولو بأشكال مختلفة، اسمه التدجين والاحتواء وشراء الضمائر. في الإعلام، المال يقتل مثل رصاص الطاغية أو المحتلّ: هكذا يجد الصحافي العربي نفسه مخيّراً بين موتين. ولأن المال نفسه في كل المواقع، فإن الرهان الأخير هو على الفرد الذي يغرّد خارج السرب، ويُفلت من القطيع، ويزعج أصدقاءه قبل خصومه، ويغامر بامتيازاته وراحته، كي يشهد للحقّ. تلك السلالة النادرة كانت تُعْرَف، حتّى الأمس القريب، بـ«الصحافيّين الأحرار».