القاهرة | لم يمض سوى وقت وجيز على الإعلان عن صحيفة «الوطن» المصرية المستقلة، حتى صدرت الجريدة بالفعل يوم الأحد الماضي، برئاسة تحرير مجدي الجلاد الذي تولى لسنوات رئاسة تحرير «المصري اليوم». هذه الفترة القصيرة بين تأسيس الصحيفة وإصدارها، تكاد تكون التغيّر الأبرز في الصحافة المصرية بعد الثورة. يعرف المتابعون أن الحصول على رخصة لإصدار جريدة خاصة، كان أحياناً من سابع المستحيلات. وكان معهوداً أن ينتظر الصحافيون والملاك سنوات طويلة قبل الحصول على الرخصة التي قد لا تأتي أبداً. كذلك كان إغلاق الصحف أو تعطيل الرخص بوسائل متنوعة أمراً معتاداً. الرقم القياسي هنا سجّله الصحافي إبراهيم عيسى الذي أغلقت له تسع صحف بعد منع صحيفته «الدستور» في نهاية تسعينيات القرن الماضي، ثم تم تدمير الجريدة نفسها في إصدارها الثاني قبل أشهر من «ثورة النيل». اليوم، يرأس عيسى صحيفة «التحرير» التي لم يكن ممكناً صدورها بهذه البساطة قبل الثورة.الواقع أن التحكم السابق في عملية الإصدار من قبل الحزب الوطني المنحل، لم يؤثر فقط على حيوية الصحافة ومهنيتها، بل حتى على اقتصاديات صناعة الصحف. على الرغم من أنّ الصحف الخاصة كانت تمثل أكثر من خمسة وعشرين في المئة من سوق التوزيع، إلا أنّها لم تكن تحصل على أكثر من 7 في المئة من سوق الإعلانات، بسبب توجه أصحاب الأعمال القريبين من النظام إلى الإعلان في «الصحف القومية» شبه الحكومية. بل إنّ ظواهر أكثر غرابة نجمت عن هذا التشوه الاقتصادي، منها أنّ صحيفة حكومية هي «روز اليوسف اليومية»، لم تكن توزع أكثر من 2000 نسخة في اليوم، لكنها كانت تحصل على إعلانات تساوي الملايين، لكونها مثلت لسان حال أمانة السياسات في الحزب الحاكم التي كان من بين أبرز أعضائها عبد الله كمال رئيس التحرير السابق لـ«روز اليوسف».
اليوم، لا شك في أنّ تقدم مصر 23 مركزاً في مؤشر «فريدم هاوس» لحرية الصحافة، يمثّل خبراً جيداً للصحافة المصرية لكن مع حذر في التفاؤل. بعد هذا التقدم الكبير، ما زالت مصر تحتل مركزاً متأخراً (123). وربما كان الخبر الأفضل أنّها انتقلت وفقاً للمؤشر نفسه من البلاد التي تغيب فيها حرية الصحافة، إلى مستوى «حرية جزئية» مع شقيقتيها تونس وليبيا. وربما كان العائق الأكبر أمام تقدم الصحافة المصرية في مؤشر الحريات، هو أنّ الصحافيين المصريين ما زالوا يعيشون ويعملون تحت حرية عرفية، لطالما عانوا منها إبان عهد مبارك. لم تنعكس الثورة حتى الآن إيجاباً في التشريعات المنظمة لعالم الصحافة المصرية، ما زال سيف الحبس في قضايا النشر مصلتاً على رقاب الصحافيين. ومن أبرز الحالات الحكم بحبس صحافيتين في جريدة «الفجر» في دعوى أقامها الشيخ يوسف البدري يتهمهما بالسب والقذف. والمفارقة أن القضية الأصلية أقيمت قبل عامين من «ثورة يناير»، وحكم فيها قبلاً بالغرامة. لكن النيابة استأنفت الحكم فصدر قبل أشهر وقضى بحبس الصحافيتين فاطمة الزهراء، وسالي حسن.
نقابة الصحافيين التي تبذل جهدها لإيقاف أو منع الحبس في قضايا النشر، تبدو ضعيفة من دون تشريع يلغي تماماً عقوبة الحبس في تلك القضايا، إزاء برلمان مشغول بمشكلات المرحلة الانتقالية. لكن النقابة نفسها التي خاضت انتخابات عاصفة العام الماضي، وصفت من قبل مركز «صحفيون متحدون» بأنها نقابة بلا دماء جديدة، إذ لم يفز في انتخاباتها سوى وجهين جديدين من بين 12 عضواً في مجلس النقابة. وفاز بمنصب النقيب صحافي قريب من الإخوان المسلمين هو ممدوح الولي في نقابة لطالما تقاسم مجلس إداراتها اليساريون والقوميون من ناحية، و«الفلول» من ناحية أخرى. ويزيد من صعوبة موقف النقابة أزمتها المالية المتفاقمة، التي اعتادت أن تعالجها من خلال نقباء حكوميين. واليوم تنشر النقابة إعلاناً يناشد الصحافيين التبرع لمشروع العلاج الطبي.
على الرغم من الوضع المضطرب للنقابة، ومن الجمود في وضع المؤسسات الصحافية الحكومية، والتأجيل في تعديل تشريعات الصحافة والنشر، واستمرار خضوع الصحف لـ«المجلس الأعلى للصحافة» الذي كان يضم في الماضي الأمين العام للحزب الوطني ووزير الداخلية، إلا أن الإصدار المتوالي لصحف جديدة، وسقوط الخطوط الحمراء بعد دخول العسكر المجال السياسي، وانتعاش النقاش العام، كلها عوامل تتيح قدراً من التفاؤل بصحافة ما بعد الثورة، رغم مخاوف الثورة المضادة وتصاعد نفوذ الإسلام السياسي.