هذا المساء، تستعيد «جوقة جامعة البلمند للغناء الشرقي» (بقيادة جينا متى رزوق) أشهر الأغنيات التي لحّنها فيلمون وهبي (1918 ـــ 1985)، برفقة فرقة الجامعة للرقص الفولكلوري، ويديرها أدونيس الخطيب. على برنامج الحفلة التي تكتنف تحية إلى الملحّن اللبناني النابغة: «لَيْلِيِّ بترجع يا ليل»، و«ورقو الأصفر»، و«بِلَيْل وشتي»، و«من عزّ النوم»، و«إسوارة العروس»، و«فايق يا هوى»... يؤدّيها محمد الشعار، وجينا رزوق، وتمارا حنّا، وجاك خوري، ووسام المرّ، وزياد نعمة، وغيرهم.
لا تزال معظم ألحان ابن بلدة كفرشيما تثير الدهشة عند متلقّيها، وتحفر ظلالاً في الحنين فينا. يتعجّب الدارسون من ألحان لا يُرتوى منها، تتقطّر سطوتها من بساطتها وهويّتها، ولو تخلّلها شيء من التركيب المفاجئ.
نهل فيلمون وهبي من الموسيقى اللبنانية الشعبية والتقليدية، وتجوّل في المقامات بعفوية وسلاسة مذهلتين في أغنيات محدّدة مثل «إسوارة العروس» (شعر جوزف حرب) التي يمزج في مقدّمتها مقام العجم بالنكريز (في عقده العلويّ هبوطاً)، قبل أن يلجأ إلى الصبا في مطلع الأغنية. لا نميل إلى إلحاق المقدّمة المذكورة آنفاً بمقام «الشوْق أَفْزا». رغم أنّ ألحان وهبي تُعدّ تقليدية نسبياً، إذ ترتبط فطرياً بالمحلّي المتأصّل، فإنّ توزيعها وتأديتها بأسلوب مغاير لناحية تقنيات الغناء والعزف، والمسافات الصوتية... جعلا بعضها معبراً بين التراث والطرب الشعبي الحديث. أدّى الأخوان رحباني دوراً محورياً في صقل العديد من الأغنيات التي لحّنها فيلمون، وتعديل بعض مقدّماتها، وإتباعها فواصل تطريب يخيّل إليك أنّها مرتجلة. «تقليدية» وهبي وجنوحه نحو الشعبيّ غير المنقطع عن الموروث لناحية النفَس والنوتات المتتابعة أو المتقاربة عموماً، يتقاطعان عنده مع نزعة حدسية إلى الابتكار داخل أنماط التلحين المألوفة لبنانياً. لا يُعدّ فيلمون وهبي «مجدّداً» أو «مطوّراً» في الأغنية اللبنانية بالمعنى المباشر، بل إنّه صاحب أسلوب متفرّد، ومشرّع لحساسية تلحينية مغايرة في الأغنية اللبنانية. يخلط الجمهور أحياناً بين أغنيات لحّنها وهبي، وأخرى من تلحين المبدع زياد الرحباني («سألوني الناس»، و«حبّيْتَكْ تنسيت النوم»)، وخصوصاً أنّ الثاني حذا حذو الأوّل تقريباً في ألحان معدودة.
أسلوب فيلمون هو إذاً ما يميّزه ويُعليه، ومكّنه من نقْش بصمته في سجلّ الأغنية اللبنانية والعربية. الملحّن هو الأسلوب أوّلاً، مثلما أنّ «الأسلوب هو الرجل» أو الإنسان. لهذا، يُتوقّع أن تبقى معظم ألحان وهبي حيّة في ذاكرة الناس، وأن تندرج مستقبلاً في خانة التراث. تأدية الأغنيات التي لحّنها فيلمون ليست سهلة. لا يقتصر الأداء على التنفيذ الحرفي في أغنيات مشابهة، بل يشمل أيضاً «إعادة تشكيل» اللحن بأمانة وحيوية وتفرّد. هنا تكمن أهمّية وديع الصافي، ونصري شمس الدين، وفيروز التي عرفت كيف تتقمّص روح فيلمون في حنجرتها وأدائها، مغدقةً روحها على أغنياته في الوقت نفسه، فيما لم ينجح تماماً بعض المؤدّين في إيصال روح وهبي الموسيقية إلى الجمهور. الوجه الآخر للملحّن الموهوب ضاعف شعبيّته. خفّة ظلّه وطرافته مثّلتا جزءاً من شخصيّته التي تكثّفت في مونولوغات، وأدوار تمثيلية، ومحطّات غنائية مفكِّهة مثل «سَنْفِرْلو عَ الـ ça ne fait rien» داخل الملحّن الرزين إذاً، كان ثمة أُلعبان يعبث بالعبارات والمعاني، ويندّي شقاء الناس بالضحك. رغم أنّه لم يكن يجيد قراءة النوتات، أبدع ألحاناً تنمّ عن بذور عبقرية خام.



«تحيّة إلى فيلمون وهبي»: 7:00 مساء اليوم ــــ «أوديتوريوم الزاخم»، «جامعة البلمند» (شمال لبنان) ــ للاستعلام: 06/930250