باريس | اعتاد بوعلام صنصال إثارة الجدل. منذ باكورته «قسم البرابرة»، اختار هذا الكاتب الاشكالي الذي عُدّ ضمن أبرز اكتشافات الادب الفرانكفوني المغاربي خلال السنوات العشرين الأخيرة، أن يرشق بحصى النقد المياه الآسنة التي غرقت فيها الحياة الثقافية والسياسية لبلد المليون ونصف مليون شهيد، منذ تفجّر ظاهرة الإرهاب الإسلاموي الذي زج بالبلاد في حرب أهلية دامت عقداً. وقتها رفض صاحب «شارع داروين» الاصطفاف في معسكر السلطة العسكرية، خلافاً لغالبية أقرانه الذين انساقوا الى تزكية «الديموقراطية المحمولة على ظهور الدبابات»، أملاً في قطع الطريق أمام المتطرفين الإسلاميين.
من «قسم البرابرة» إلى «احكي لي عن الجنة»، مروراً بكتابه السياسي «البريد المتبقي - الجزائر، رسالة غضب وأمل الى أبناء بلدي»، سلط صنصال مشرح النقد على الفساد المتفشي على كل مستويات السلطة، فاضحاً «الحقرة» (الظلم) الذي دفع بآلاف الشباب اليائسين الى الارتماء في أحضان الجماعات المتطرفة. لم تلبث مواقف صنصال أن ألّبت عليه النظام الحاكم. تم فصله من منصبه كخبير اقصادي ضمن كوادر وزارة الصناعة، وتعرّض لهجمات الاعلام الموالي للسلطة. لكن ذلك لم يزده إلا إصراراً على رفع التحدي، بإصدار عمله الأشهر والأكثر نضجاً «حراقة» (٢٠٠٥) الذي لعب دوراً ريادياً في تسليط الضوء على ظاهرة «قوارب الموت».
لكنّ الشهرة التي حققها على الضفة الشمالية للمتوسط سرعان ما زجت بالكاتب المشاكس في فخ مغازلة الاستبلشمنت الثقافي المهيمن في فرنسا. على غرار سلالة طويلة من الكتاب المغاربة الفرانكفون، انساق صنصال الى لعب دور «العربي الخادم»، وفقاً لمقولة الروائي رشيد بوجدرة خلال الجدل الشهير الذي دار بينه وبين الطاهر بن جلون عام ١٩٩٤، بخصوص الموقف من مؤسسات الفرانكفونية الرسمية. ترجم هذا التحول بموقف ملتبس عبر عنه صنصال في آذار (مارس) ٢٠٠٨، بخصوص الحملة التي أقيمت من أجل مقاطعة «معرض باريس الدولي للكتاب». تلك السنة، اختارت التظاهرة الباريسية الدولة العبرية ضيف شرف احتفاء بـ«الذكرى الستين لتأسيس اسرائيل»، ما دفع عشرات الكتاب والمثقفين، عرباً وأجانب، الى توقيع عريضة تطالب بمقاطعة المعرض لأنه يحتفي بكيان غاصب أقيم على حساب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني. لكن صنصال شذّ عن القاعدة، ورفض الانضمام الى حملة المقاطعة، مبرراً موقفه الملتبس بقوله: «أنا أمارس الأدب لا الحرب». لم تفوت الأوساط الصهيونية في فرنسا تلك الفرصة للإشادة بجرأة الروائي الجزائري و«مواقفه الطليعية في الدفاع عن قيم السلام والحوار والتعايش بين الشعوب». ما وضع صنصال في مرمى نيران الإعلام الرسمي الجزائري، الذي سعى إلى استغلال الجدل بخصوص موقفه التطبيعي من أجل تصفية حسابات قديمة مع الكاتب على خلفية مواقفه النقدية تجاه النظام العسكري الحاكم. وكان لافتاً أنّ الحملة الجزائرية ضد صنصال اتخذت آنذاك منحى تخوينياً، وصبت في شتم الكاتب وتحقير ابداعاته بدل أن ترتكز على تسليط الضوء على المفارقة الفاقعة في إحتفاء الاعلام الفرنسي المتصهين به كمثقف يدافع عن السلام والتعايش بين الشعوب، لمجرد أنّه رضي بالمشاركة في معرض يحتفي بتأسيس اسرائيل التي لا يخفى حتى على غلاة مناصريها أنّها ليست نموذجاً في السلام والتعايش بين الشعوب!
الشطط الذي اتسمت به الحملة الجزائرية ضد صنصال، قابلته على الضفة المقابلة حفاوة متزايدة، سواء من حيث الترويج الإعلامي المبالغ فيه لمؤلفاته أو من خلال منحه جوائز أدبية. واذا بالفخ الصهيوني ينغلق على الروائي الجزائري، حيث تم استدراجه الى سقطة أدبية مدوية تمثلت في رواية «قرية الألماني». بعد هذه السقطة، توالت تصريحاته ومواقفه الملتبسة، بدءاً بمسايرة الاسلاموفوبيا التي أحكمت قبضتها على فرنسا الساركوزية من خلال تصريح في مجلة الـ«اكسبرس» (آب/ اغسطس ٢٠١١) قال فيه: «الديانة الاسلامية أصبحت قانوناً مرعباً لا يفرز سوى الممنوعات» وانتهاء بقراره التطبيعي بزيارة الكيان الغاصب!
حملت راوية «قرية الألماني» كلّ كليشيهات الأدب الرخيص الذي يتعمد دغدغة المخيلة الاستشراقية الغربية، حتى أن بعضهم قارنها بسقطة روائي جزائري آخر هو ياسمينة خضرا الذي رضخ لضغوط ناشره الفرنسي «جوليار»، فأصدر ثلاث روايات صبت في تمجيد الغرب الاستعماري وتملق الصهاينة («سنونوات كابول» و«صفارات إنذار بغداد» و«الاعتداء») بعد «ثلاثية العار»، تلقف الاعلام الفرنسي المتصهين أعمال خضرا، ووصل الأمر الى حد وصفه بأنه أفضل من كتب بالفرنسية في تاريخ الأدب المغاربي (سلاماً على كاتب ياسين ومحمد ديب وإدريس الشرايبي!). وإذا ببوعلام صنصال ينساق نحو بريق الشهرة الزائفة ذاتها.