في 22 شباط (فبراير) 2009، حلّ بوعلام صنصال ضيفاً على حلقة Rencontres التي تبثها إذاعة Judaïqes FM اليهودية الفرنسية. يومها، كانت روايته «قرية الألماني» وسيلة طيعة في أيدي مذيع متحفز لتمرير أبجديات الخطاب الصهيوني عن «معاداة السامية لدى العرب والمسلمين».
قرأ المذيع جان كوركوس ملخصاً عن الكتاب، قائلاً إنه يحكي قصة نازي شارك في «الحل النهائي» (أي في المحرقة اليهودية) وفرّ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى مصر ثم أرسله جمال عبد الناصر إلى الجزائر ليعمل خبيراً عسكرياً لدى جيش التحرير. هنا، أكّد الكاتب أنه استوحى الحبكة من حدث حقيقي: «وجدت نفسي (...) في إحدى المرات في قرية ضائعة من قرى الهضاب العليا الجزائرية. كان يعيش فيها هذا الألماني الذي سميته هانس شيلر (...). استعلمت عنه فعرفت ماضيه النازي. علمت أنّه فرّ إلى مصر ثم أرسله الأخ الأكبر عبد الناصر كمستشار عسكري لدى جيش التحرير». سرّ المذيع بهذه المادة الدسمة فسأل: «هل هناك نازيون آخرون ذهبوا للعيش في الجزائر ؟» وبدل أن يجيب بأنّه روائي لا باحث ولا جاسوس كلِّف بتعقب الهتلريين، فضل صنصال تقمص شخص المؤرخ الفهامة: «محتمل. ومن المحتمل أيضاً أنهم جاؤوا إليها أيضاً في الظروف نفسها (...) أو عبر شبكات أكثر سرية».
وبما أن المحاور والمحاوَر معا بدوا متفقين على تضافر تاريخ الثورة بتاريخ قدامى النازيين، فلن يعرف المستمعون أنّ هذا الجواب هو في أحسن الأحوال صرح من الأكاذيب. ما المصادر التي تروي أن عبد الناصر أرسل مستشارين نازيين لمساعدة الجزائريين؟ ولماذا لم يرد ذكرهم في أرشيف الدعاية الاستعمارية، وهي التي لم تدع شيئاً إلا واستغلته لتشويه صورة جبهة التحرير؟ أليس هدف هذا الهذيان إظهار الثورة الجزائرية كـ«مؤامرة ناصرية»، أي ترديد هلوسات البروباغندا الفرنسية الرسمية في الخمسينيات؟ وماذا عن تعامل الموساد مع الاستخبارات الفرنسية لإجهاض الثورة الجزائرية؟
ولنقص فادح في ثقافته التاريخية، فضل صنصال الخلط بين الحدث الروائي المتخيل والحدث التاريخي المحقق، متستراً حين أعوزته البراهين وراء عبارات من نوع «يحتمل»، ظاهرها الشك الديكارتي وباطنها الجهل. استعار نبرة المؤرخ وقال: «يجب أن تعلموا (...) أنّ الكثير من العرب ومنهم جزائريون التحقوا بألمانيا النازية وحاربوا في صفوف الكتائب العربية التي شكلها هتلر في صفوف القوات الألمانية».
ولم يصدق كوركوس حظه السعيد مع ضيفه الجزائري، فهو ما أن يتطرق إلى إحدى أبجديات البروباغندا الصهيونية، حتى يراه ينوب عنه في تفسيرها. وتواطأ الاثنان ــ أو قل تواطأ الجهل وسوء النية ــ لتغييب حقائق ثابتة منها مثلاً أنّ حزب الشعب الجزائري طرد كل من اشتبه في دعوته إلى التحالف مع هتلر بذريعة تحرير البلاد. ثم هل يغطي التحاقُ بعض الجزائريين بجيوش هتلر واقع تحرير فرنسا وهزيمة النازية في مونت كاسينو من قبل عشرات الآلاف من المحاربين الجزائريين والمغاربة؟ هل ينسينا أنّ العديد من مؤسسي جبهة التحرير (أحمد بن بلة مثلاً) حاربوا النازية في صفوف الحلفاء وأنّ تنكُّر فرنسا لجميلهم ورفضها الاعتراف بحق الجزائريين في الاستقلال، هما ما دفع بهم في أحضان المعركة المسلحة؟
وتواصل الحوار بائساً كما بدأ: كوركوس يتكلم وصنصال يزايد. قال الكاتب: «لا أحد في الجزائر وباقي العالم العربي يطرح مسألة المحرقة. لا أحد معني بها». وقاطعه المذيع وهو يكاد يطير من الفرحة: «أتعني أن نفي المحرقة فكرة مستساغة في الجزائر»، فأجاب: «أجل، أجل، نفيها نفي مؤسساتي». ولم يفسر لنا كيف يمكن أن يكون هذا النفي «مؤسساتياً» إذا كان الجزائريون لا يكترثون أصلاً لوجود المحرقة كما يقول، لكن، لله في أفكار صنصال شؤون.
بعدها، بدأ حديث باهت آخر عن أطروحة تشابه النازية والحركة الإسلامية جوهرياً. سمعنا من الأفكار المبتكرة الأصيلة أنّ «الإسلاميين فاشيون» وأنّ «الفاشيين لا يكتفون بالكلام ويحاولون تطبيق نظرياتهم». وهنا سأل كوركوس: «برأيكم، عندما يقول أحمدي نجاد إنّ إسرائيل ستدمّر، هل يجب أن نأخذ كلامه مأخذ الجد؟». أجاب صنصال وهو يلبس جلد الباحث المتبحر في علوم السياسة: «بالتأكيد. يجب دوماً أن نحمل اللإسلاميين محمل الجد (...) ليس أحمدي نجاد من أولئك الذين يمتلكون القنبلة النووية لمجرد متعة امتلاكها. عندما يحصل عليها، سيلوح بها كل صباح إلى أن يأتي اليوم الذي يفجّرها حقاً».
لم يفهم صنصال أنه قال بالضبط ما يقوله اليمين المتطرف الإسرائيلي. بدا الخطر الإيراني كأنّه يتهدده شخصياً: «على الجميع، على الروس والصينيين أن يتحملوا مسؤولياتهم». وهنا دخل محاوره المرحلة الموالية من مراحل الدعاية الصهيونية التقليدية: «حتى العالم العربي مهدد». وأمن ضيف على كلامه ولم يسأل: «هل النووي الإسرائيلي لا يهدد العرب؟».
وواصل كوركوس تطبيق أجندته، فتأسف لجهل شباب الضواحي الفرنسية المسلمين بتاريخ المحرقة. وهنا تأوه صنصال وأبدى استعداده لأن يحدثهم عنها «ولو تطلب ذلك أن يقضي معهم أسبوعاً أو أكثر كي يفهموا أن البشرية(...) قد تسقط ثانية في هذه الهمجية، خصوصاً مع الحركة الإسلامية». وانتهى اللقاء بهذه الكلمات. بدا صنصال في أتعس أيامه. بدا كأنه لم يحس بالإهانة: إهانة ألا يُسأل ولو مرة عن روايته كعمل فني وأن تصب كل الأسئلة في مصب اعتبارها أطروحة سياسية عن معاداة السامية لدى العرب والمسلمين