كيف يمكن الحديث عن العصر الذهبي للسينما المصرية من دون التوقف عند جمال وإغراء ورقّة سعاد حسني؟ ومن منّا لم يُعد مشاهدة أفلامها الساحرة مرات عديدة على أشرطة الـVHS قبل أن تغزو الأقراص المدمجة عالمنا؟ المخرجة اللبنانية رانية اسطفان، واحدة من هؤلاء الذين فُتنوا بذلك العصر الجميل وبأبطاله. في فيلمها الطويل الأوّل «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» (68 د)، تحتفي اسطفان بـ«سندريلا الشاشة العربية». شريط لا يخلو من نوستالجيا لزمن مضى، علّه يعود ليمحو هذا التزمّت الديني الذي بات يلفّ عالمنا العربي اليوم.
الفيلم الذي نالت صاحبته جائزة «أفضل مخرج للأفلام الوثائقية» في «مهرجان ترابيكا الدوحة» (2011)، وجائزة Renaud Victor في «المهرجان العالمي للأفلام» في مرسيليا (2011)، قُدّم للمرة الأولى في «بينالي الشارقة» ونال جائزته الكبرى، قبل أن يُعرض في غاليري Serpentine في لندن، وفي «متحف الفن الحديث» في نيويورك، وفي برمجة «أشغال فيديو ـــ 2011» في لبنان.
اليوم، يعود الشريط إلى لبنان، ليحط رحاله في صالة سينما «متروبوليس أمبير صوفيل» ضمن برمجة «دفاتر يومية: شهر السينما اللبنانية». لن تجدي محاولات تصنيف الفيلم بين خانة الوثائقي، أو الفيديو، أو التجريب. إنّه خليط من كل تلك اللغات السينمائية التي ولّفتها اسطفان على طريقتها الخاصة.
إذن، نحن أمام شريط يرثي ثلاثة اختفاءات: اختفاء سعاد حسني، واختفاء العصر الذهبي للسينما المصرية، واختفاء أشرطة الـVHS. بدأ رحلت رانية اسطفان مع سعاد حسني من خلال أطروحتها التي قدمتها عن «زوزو» لجامعة «لاتروب» الأسترالية. لكنّ خبر وفاة الـ«سندريلا» في لندن عام 2011، كان السبب الرئيسي الذي دفع اسطفان إلى إنجاز فيلمها. هكذا، انهمكت المخرجة اللبنانية في مراجعة 82 فيلماً مثلت فيها سعاد حسني. بدأت مع أوّل أدوارها في «حسن ونعيمة» (1959)، مروراً بعشرات التجارب المهمّة مثل «الكرنك» (1975) و«موعد على العشاء» (1981)، و«حب في الزنزانة» (1983)، وانتهاءً بآخر أدوارها في «الراعي والنساء» (1991).
بعد بحث عميق وشاق في أرشيف الفنانة الراحلة، خلصت اسطفان إلى توليفة من 65 فيلماً، نسختها على كاسيت VHS، وقسمتها إلى ثلاثة فصول، كما هي الحال في التراجيديا الإغريقية. مواد أرشيفية اختارتها اسطفان، وعالجتها بالمونتاج، من دون إضافات في الصورة أو في الصوت. هكذا، تفتح اسطفان الباب للراغبين في رحلة استكشافية في تراث سعاد حسني التي عملت إلى جانب العديد من أجيال السينما المصرية ونجومها، بدءاً بعبد الحليم حافظ وانتهاء بأحمد زكي.
لم تهتم صاحبة «حرب لبنان» (2006) بتفاصيل حياة حسني، أو حتى بالأحاديث التي حيكت حول موتها. أرادت أن تسلط ضوءاً وحيداً على سعاد حسني/ الممثلة بأدوارها التي اختلفت بين الابنة، والأخت، والحبيبة، والأم. كأن «اختفاءات...» يستعيد نموذج المرأة العربية في الستينيات والسبعينيات من خلال شخصية حسني المنفتحة.
خلال التحضير للفيلم، أقامت المخرجة لفترة في شارع Edgware Road في لندن، على مقربة من الشقة التي أمضت سعاد حسني آخر سنوات حياتها فيها. كررت اسطفان زيارتها لمكان سكن حسني، دون أن أن تصوّر أو تجري مقابلات مع الجيران الذين عايشوا الفنانة الراحلة. المشاهد التي اختارتها صاحبة «قبيلة» (1993) في شريطها، تظهر التحولات التي طرأت على الشخصية الفنية لسعاد حسني، والتطور الذي رافق أفلامها.
هكذا، سنقع على البراءة والحبّ العذري في المشاهد الأولى، لننتقل بعد ذلك إلى الرغبة الجنسية والحضور المكثف للجسد، مروراً بمعاركها مع الحياة، وصولاً إلى المأساة والمعاناة، فالانتحار. إنها مرثية سينمائية لأيقونة تمثّل عصراً بأكمله، بدأ في الخمسينيات وانتهى في التسعينيات. مرثية تشمل أشرطة الـVHS التي كانت الوسيلة الوحيدة لتداول الأفلام خارج صالات السينما. وعلى طريقتها، تثني رانية اسطفان على جمالية تلك الأشرطة الفريدة. «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» فيلم جريء في اعتماده الأول والأخير على مواد أرشيفية، انتقتها المخرجة بتأنٍ وشاعرية، لتقدم أجمل إهداء إلى سعاد حسني، الفنانة، وإلى زمن سينمائي لم يحظ بحقه من التقدير رغم أنّه «فتننا» وشكّل جزءاً أساسياً من صورة «المحروسة».

«اختفاءات سعاد حسني الثلاثة»: ابتداءً من 17 أيار (مايو) الجاري ــــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ــ بيروت) ـــ للاستعلام: 01/204080



سيرة


درست رانية اسطفان (الصورة) السينما في جامعتي «لاتروب» الأسترالية و«باريس 8» الفرنسية. أخرجت عدداً من الأفلام الوثائقية مثل «القبض على المنارة» (2003)، و«البور» (2005)، و«يدخنون على الماء» (2007)، وعملت في المونتاج وهندسة الصوت. كما وقفت كمخرجة مساعدة أولى إلى جانب سينمائيين عالميين، مثل سيمون بيتون.