بحضور أحد أهم فناني العصر، افتتح الرسام الألماني معرضه «غيرهارد ريختر ـــ بيروت» منذ أسابيع في «مركز بيروت للفن». يقدم المعرض عدداً من الصور الفوتوغرافية المرسوم فوقها، مع مجموعة مختارة من نسخ بعض لوحات ريختر الأكثر شهرة. مَن منّا لم تبهره «بيتي» إحدى أشهر لوحات ريختر عن صورة فوتوغرافية لابنته؟ إنّها الفرصة اليوم لمشاهدة الصورة والتعرّف إلى ذلك التشكيلي الذي أراد تحدي الصورة، فرسمها، وأعاد تصويرها كي يعطيها معنى مختلفاً. طوال مسيرته، ساءل ريختر ـــ وما زال ـــ طبيعة الصورة، بدءاً من مصدرها، وصولاً إلى علاقتها بالتاريخ. من لقطات للحظات حميمة، إلى صور مستقاة من الإعلام، ربط الفنان بين الجوانب الشخصية والدنيوية للحياة، وخصوصاً مع تدفق الأحداث التاريخية والدرامية العائدة إلى الذاكرة الجماعية.
بذلك، تتعدّى أعماله حدودها الجغرافية والتاريخية التي انطلقت من السياق الألماني عقب الحرب العالمية الثانية. لكن، كيف ننظر إليها اليوم في لبنان، وتحديداً في بيروت؟ يتضمن المعرض أعمالاً من السبعينيات حتى اليوم، مع عمل تم تجديده خصيصاً لبيروت. في War Cut، أعاد تصوير إحدى لوحاته التجريدية من عام 1987، لينتج 216 صورة فوتوغرافية، ويضعها في حوار مع التغطية الصحافية لغزو العراق عام 2003. أما في النسخة الجديدة الخاصة ببيروت، فيستعمل مقتطفات من صحيفة «نيويورك تايمز».
عمل آخر يصبّ في التوجه ذاته: في عام 1978، التقط ريختر 128 صورة للوحته التجريدية «هاليفاكس»، كل واحدة من مسافة وزاوية وظروف إضاءة مختلفة، فأنتج ما يشبه دراسة علمية لسطح اللوحة. تقدَّم الصور الـ 128 في المعرض البيروتي، مع أعمال أخرى مثل «ماستنغ سكوادرن» و«بيتي». كلها صور التقطها الفنان عن لوحته الأساسية، معبراً عن رفضه لتسلسل هرمي بين الوسيطين الفنين، اللوحة والصورة، واضعاً الاثنين على قدم المساواة.
أما المجموعة الأكبر في «مركز بيروت للفن»، فهي الصور التي أعاد ريختر الرسم فوقها. استخدم الفنان للمرة الأولى تلك التقنية عام 1980، عندما بدأ بوضع فضلات الألوان على الصور ليخلق منها لوحات تجريدية جديدة. معظم تلك الصور التقطها ريختر بنفسه. أعمال تضع وسيطين في حوار: الرسم والتصوير، التجريد والتشكيل، لتشكل مفتاحاً لقراءة مسيرة أعماله. ضمن هذا السياق، يعرض الـ BAC أكبر عمل له مؤلفاً من الصور التي رسم عليها الفنان. إنّه «زيارة المتحف» (2011) الذي التقط صوره في متحف الـ«تايت» البريطاني. ضمن تسلسل سينمائي وتوثيقي، تقدّم الصور جولة في أحد أكثر المتاحف شعبية في العالم. وعبر الرسم فوق الصور، وإعادة عرضها، يفكّر الفنان في ذلك اللقاء بين الفن والحشد/ الجمهور في بداية القرن الحادي والعشرين.
لا بد للعودة إلى تاريخ هذا الفنان قبل السبعينيات، لفهم علاقته بالرسم والصورة. ولد ريختر في درسدن عام 1932، ثم سكن في الريف، قبل أن يعود إلى درسدن عام 1951، لاستكمال دراسته، لكنه عاد إلى مدينة جديدة، مدينة ما بعد الحرب العالمية الثانية. بعد رحلة قام بها إلى موسكو ولينينغراد عام 1961، قرر مغادرة درسدن إلى ألمانيا الغربية. لكن بدل الاستقرار في ميونيخ، كما كان مخططاً، سكن وتابع دراسته في دسلدورف. هناك تأثر بموجة الـ«بوب آرت» الآتية من لندن، وخصوصاً جماعة الـ fulux «العبثية والمدمّرة» التي مزجت بين وسائل فنية مختلفة. في تلك المرحلة، بدأ اهتمام الفنان الشاب بوسائل الإعلام، والمجتمع الاستهلاكي، والثقافة الشعبية، والمشاغل الراهنة. استند في أول أعماله إلى قصاصات الجرائد، والصور الفوتوغرافية، لتبدأ رحلته في اسكتشاف العلاقة بين الصورة والرسم، مكرّساً بذلك ممارسة فنية ستميز أعماله حتى اليوم. «الصورة الفوتوغرافية هي الأكثر مثالية. لا تتغير، إنّها مطلقة ومجرّدة من الأسلوب، تتمتع باستقلالية، ومتفلتة من القيود. نحن الآن في منتصف الستينيات، ومعظم أعماله كانت ترسم الطائرات الحربية، والبورتريهات العائلية. لكن الموت كان هوسه: لوحته «ميت» عبارة عن جثة رجل تحت مكعب كبير من الثلج، و«امرأة مع مظلة» عن صورة لجاكي كينيدي التقطها مصورو البابرازي فور مقتل زوجها... وفي أواخر الستينيات، واصل رسم نساء عاريات، لينتقل إلى رسم المدن كميلانو، وباريس، ومدريد، وكورسيكا، من منظار جوي. كأنّه كان يبحث عن استكشاف التجريد في الرسم، بعيداً عن الإنسان، مركّزاً على شكل المدن بعد الحرب العالمية، وما بقي منها. هذا الموضوع سيلازمه في أعماله التي ستكرّسه منذ الثمانينيات، أحد أشهر الرسامين في العالم يدور في فلك الرسم والصورة، والسياسة.

«غيرهارد ريختر ـــ بيروت»: حتى 16 حزيران (يونيو) ــــ «مركز بيروت للفن» (BAC ـــ جسر الواطي) ـــ
للاستعلام: 01/397018



في مرآة بيروت

في زيارته الأولى لبيروت قبل سنتين، التقى منظّم المعارض والمؤرخ الفني الألماني أكيم بوركهارت الفنانة لميا جريج، إحدى القيّمات على الـ BAC، فتباحثا في استقدام أعمال ريختر (الصورة)تتناا. يخبرنا أكيم أنّ «تاريخ بيروت كان المحفز الأول الذي دفعه إلى تنظيم المعرض. بيروت شهدت حروباً عدة، وعليها أن تحاور أعمال ريختر التي تحاكي الحروب والتغيرات».