القاهرة | لا تنفصل محاضرة «أين أقف الآن» التي قدّمها حسن خان (1975) منذ أسابيع في «أكاديمية أشغال داخلية» (جسر الواطي ــ بيروت) عن مشروعه القائم على تنوّع أشكال الممارسات الفنية، هو الفنان، والمؤلف الموسيقي، والكاتب، وصانع الأفلام، الذي صنع لاسمه مكاناً لافتاً فوق خريطة الفن المعاصر المصري. في الطبعة العربية من كتابه «الاتفاق» الصادرة أخيراً عن دار Sternberg Press (برلين)، يقدّم خان مجموعة من النصوص السردية، يقيم بينها وبين بعض أعماله الفنية نوعاً من الحوار الذي يرمم ما يعانيه أبطال نصوصه من تشظٍّ ورغبة في الإفلات من أسر اللحظة الراهنة.
لا يعنون خان نصوصه، تاركاً للقارئ حرية العنونة وتأويل الطبقات السردية المتتالية. تخبرنا شخصياته عن قلقها ونهمها للحياة، رغم تصدّع نفسياتها وهشاشة تركيبتها. في أحد تلك النصوص، يروي تجربة آمال، العانس الغنية التي تسعى إلى استغلال ما تبقّى لها من أيام عبر مواجهتها مع أقاربها. ليس بعيداً، سنقع على طلعت، بطل نص آخر يبحث عن فرصة للصعود الاجتماعي، ودائماً ما يقارن سعيه الدوؤب بكسل صديقه فكري المفتقر إلى حوافز المبادرة. وفي نص ثالث، سنرى شاباً يمثل صورة نموذجية لشباب الطبقات الصاعدة في ظل مجتمع يقوم على الاستعراض. تقوم النصوص على ما يمكن أن يسمّى ولعاً بالحراك الاجتماعي الذي تشهده المدينة. يحرّك خان أبطاله فوق خارطة القاهرة، في علاقة متبادلة بين شخص يكشف تحولات المدينة وصعودها وهبوطها، ومدينة تكاد تكون رقعة شطرنج لساكنيها، لكن خان لا يرثي المدينة، ولا يراها في الحدود الراكدة التي تبقي الزمن معطلاً، بل يفضل أن تتشابه رؤيته إليها إلى حد كبير مع طموحات أبطاله في خلق حياة جديدة قائمة على مواجهة الركود. هكذا، تتلاقى نصوص خان مع أعماله الفنية عبر هذه الرؤية. يسعى خان إلى إعادة الاعتبار إلى الثقافة الشعبية في تجلياتها المختلفة. على سبيل المثال، يقدّم في مشروعه الموسيقي «يا ليل يا باشا» محاورة إلكترونية مع إرث المغني الشعبي أحمد عدوية، في محاولة منه للاشتباك مع النص لا استباحته. في أعماله الموسيقية التي قدّمها منذ فترة في مهرجان «وسط البلد للفنون المعاصرة» في القاهرة، يمارس خان ولعه بالتوليف بين الأشكال المكونة مسبقاً، والأداء المباشر القائم على استدعاء طبقات من آلات الوتريات وأصوات آلات الإيقاع المتغيرة Modulated Percussions والقليل من الإلكترونيات، كما يتبدّى شغف خان في التسميات القائمة على محاورة الماضي، إضافة إلى اهتمامه بترميم الموسيقى الشعبية وجعلها قادرة على موازاة الحاضر.
إنها طريقته المتفردة في الاستفادة من شحنات الموروث وتقديمها في نطاقها الأوسع، وفي الهرب من ثنائية المحلي والكوني في الفن. هكذا، تمكّن خان من إيجاد صيغة للتعامل مع الماضي عبر تجربته الفنية القائمة بالكامل على فحص ما هو كلاسيكي واختبار إمكانات صموده في الزمن المعاصر.
يرفض خان تصنيف أعماله بين تقليدية ومعاصرة. ورغم علاقاته الوطيدة بشتّى مراكز الثقافة والفنون المعاصرة في أوروبا، إلا أنه يرى أنّ الغرب يبحث عن هذا التصنيف لصون موقعه في العالم المعاصر، دافعاً بالآخر إلى البحث عن هويته وتحديد مكانه. العمل الفني لدى خان فعل سياسي لإعادة رسم الأطر وتحديد التصنيفات، أو إلغائها ضمن منظومة يتحكم فيها الغرب، أي ما يسمّى عالم الفن «المعاصر» الذي ما زال الغرب يتحكم في قواعده من الناحية الفنية، والأهم من الناحية المادية التمويلية للمشاريع غير الأوروبية. أما حسن خان، فقد فرض نفسه فناناً يستند إلى أدوات متعددة، لتقديم مشروع ينطلق من بيئته إلى العالم.
www.hassankhan.com