الجزائر | عادت وردة إلى الجزائر ليس من أجل الاحتفال بخمسينية الاستقلال، بل لتسكن التراب الذي عشقته. كثيرون ممن احتشدوا ينتظرون جثمانها في مطار هواري بومدين مساء الجمعة، عجزوا عن تصديق وفاة الفنانة. انهار بعضهم أمام عدسات الكاميرا بينما قرر آخرون الاحتفال بالعبور الأخير لأميرة الطرب العربي من خلال الزغاريد وأداء أغنياتها الخالدة.
بين الوصول إلى مطار هواري بومدين الدولي ليلة الجمعة (العاشرة ليلاً بالتوقيت المحلي) والانتقال إلى قصر الثقافة السبت من أجل إلقاء النظرة الأخيرة، ثم السير في موكب جنائزي كبير إلى مقبرة «العالية»، (الواحدة بعد الظهر) مسافة زمنية بدت طويلة، لكنها ليست بطول المسار الذي صنعته وردة على امتداد أجيال. في الاستقبال، كان هناك جمع من الفنانين والمثقفين الجزائريين، أبرزهم المطربتان سلوى ونرجس من زمن الأغنية الجزائرية الأصيلة خلال الستينيات والسبعينيات، والممثلة فريدة صابونجي التي قاومت الاحتلال وشاركت في فرقة التمثيل الخاصة بجبهة التحرير الوطني، والممثل سيد علي كويرات الذي يعرفه الجمهور العربي من خلال أدواره في سينما يوسف شاهين. في قاعة الشرف في المطار، جلست فلة الجزائرية مع شقيقتها المطربة نعيمة عبابسة، فضلاً عن حضور عبدو درياسة (في غياب والده الفنان الكبير رابح درياسة)، وكان هنالك أيضاً عدد من الوزراء.
أفراد الجوقة الموسيقية الرسمية الخاصة بالرئاسة، وقفوا صفاً واحداً ينتظرون عبور الجثمان تحت ظلمة الليل وأضواء عدسات الكاميرا. اختلطت الموسيقى الحزينة بصوت أصدقاء الراحلة من فنانين ومثقفين وهم يصرخون «وردة على سلامتك»، «لن ننساك يا أميرة»، «مرحباً بك في بلادك»، «وردة مازلنا واقفين» (آخر أغنية أدتها الراحلة للوطن). وهناك من قرر أن يغني وهي تُنقل في سيارة الإسعاف وبجوارها ابنها رياض المنهار «عيد الكرامة والفدى يا عيد... هلت على وطني بفجر جديد» لكنه غناء مجروح، وإنشاد موجوع، وتوديع يليق بفنانة كبيرة.
في قصر الثقافة، وُضع الجثمان من أجل إلقاء النظرة الأخيرة. وسائل إعلام محلية وأجنبية أحاطت بالجثمان، وضع رياض باقات ورد على نعش والدته، إلى جانب باقة أرسلها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. إلى جانب وردة، جلس الفنان الإماراتي حسين الجسمي الذي وصل مطار الجزائر في ساعة مبكرة يوم الجمعة، ورفض مغادرة جثمان الراحلة منذ ساعة توديعه حتى انتهاء عملية الدفن، رافضاً الحديث للصحافيين بينما صرّح النجم التونسي صابر الرباعي بأنّ «وردة ليست خسارة للجزائر فحسب، بل خسارة عربية كبيرة أيضاً». في القاعة أيضاً، التفت الجميع لمستشار الملك المغربي المقرب، فؤاد عالي الهمة الذي راح يقرأ الفاتحة، وتوجّه إلى رياض قائلاً: «والدتك خسارة لنا جميعاً، وجلالة الملك يبلغك تعازيه الخاصة والحارة». لحظات صعبة تلك التي فارقت فيها وردة عشاقها ومحبيها. حمل رجال الحماية جثمانها على الأكتاف، وخرجوا من القاعة وسط التكبير والزغاريد. الطريق إلى المقبرة كان طويلاً. سار الجثمان في مقبرة «العالية» بضعة أمتار، وسارت خلفه شخصيات بارزة ومهمة. النساء اقتحمن المقبرة على عكس المألوف وكسرن ما جرت عليه العادة في الجنائز. هنا رقدت وردة، وعلى مسافة قريبة رؤساء الجزائر السابقون هواري بومدين، ومحمد بوضياف، وآخرهم أحمد بن بلا... ظلّ العشرات في مقبرة «العالية»، يستأنسون بالذكريات في وداعهم لصاحبة «بتونس بيك». يتألمون ويرددون، رحلت صاحبة «العيون السود» في يوم وليلة، رحلت ويصعب نسيانها بين يوم وليلة.