تتنصّل هدى بركات من لغة الأدب في «ملكوت هذه الأرض». تستعير لغة شخصياتها لتنسج السرد على منوالها. هكذا، نلج عوالم عائلة المزوّقية التي تقطن منطقة بشري. حياة العائلة، بكل ما يرافقها من أحداث وتغيّرات، تعكس حياة المجتمع الريفي في لبنان منذ الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى بدايات الحرب الأهلية. إنها مخاضات جماعة امتحنت علاقتها بالآخر وقليلاً ما نجحت.
تفكك الروائية اللبنانية العلاقة بين هوية الجماعة الخائفة وذاكرتها المليئة بالوهم، عبر مصائر أفراد عائلة المزوّقية. علاقات كاريكاتورية تقوم على أحداث خيالية، تتشابه مع ملاحم وبطولات القصص الشعبية. الدين (المسيحي هنا) يصوغ سلوكيات الأفراد وينمّط مشاعرهم. ثمة رصدٌ دقيق للأثر الشعبي للدين، حيث التقاليد والعادات والطقوس تصنع عقليات الناس وطرق عيشهم. يسوع والعذراء مريم ومار الياس، يعيشون داخل تفاصيل هذه القرية المارونية. تحضر العجائب الخارقة في الأحاديث اليومية. المزوّق الأب تحاصره الثلوج في إحدى القمم، فيموت وحيداً بعد أن يرسل ولده طنوس على ظهر دابة إلى القرية. الأهل يضعون إنجيلاً في التابوت بدلاً من الجثة التي أكلتها الضباع. حادثة تلاحق طنوس بكل حمولتها التراجيدية والملحمية وتتكرر معه في المكان ذاته حيث المنزلقات الصخرية. لكن الشاب لن يموت كوالده. صوته الجميل الذي صدح بتراتيل تناجي العذراء، يدفع ثلاثة رهبان من دير «مار قزحيا» كانوا مارين صدفة من هناك إلى إنقاذه.
تنحاز صاحبة «حجر الضحك» إلى الرواية الشفهية لهؤلاء الذين يسكنون في المرتفعات تحت وطأة الفقر والحرمان وظلم الإقطاعيين. تفسح لهم المجال ليسردوا قصصهم، ويفصحوا عن رؤيتهم لذواتهم ولذوات الآخرين. سنرى حذرهم من الغرباء وخوفهم من الآخر. يلتقي طنوس وأخته سلمى وصديقهما نجيب بأحد الجنود الفرنسيين لعقد صفقة ترتبط بدواليب مسروقة من الجيش الفرنسي. يغالي الجندي في شرب العرق، فيقتله نجيب. بعدها، يهرب طنوس إلى دمشق ومنها إلى حلب حيث ينضم إلى فرقة موسيقية ويقع في غرام امراة حلبية. لكنّ أصولها المسلمة تمنعه من اصطحابها معه إلى القرية.
تحاول بركات الابتعاد عن التعقيد. تنسحب من القصّ، وتترك طنوس وسلمى يتناوبان على السرد. سلمى التي تظل في القرية حارسة لذاكرتها وشاهدة على تحولاتها، تخبرنا كيف يعيش أهلها هاجس الخوف من الأعداء. تعيدنا صاحبة «أهل الهوى» إلى الطائفية قبل الحرب الأهلية. نقرأ في حوار يدور بين الخال وكاهن القرية عن دائرة النار التي تحيط بالقرية: «شيعة بعلبك محمييّن من بلاد فارس. وإسلام الضنيّة وطرابلس يحميهم بنو دينهم من تركيا. وروم الكورة ترد الأخطار عنهم سفن موسكوبية. الزغرتاوية يتحالفون مع الشيطان لمحونا من الوجود». تنهي بركات روايتها على وقع بدايات الحرب الأهلية. يتعرض أحد شباب العائلة للخطف ويستعاد بعملية خطف مضادة. فيما طنوس وسلمى اللذان فاتهما قطار العمر، يعودان إلى القرية وينصرفان إلى تأمل ما عاشاه من أفراح وأحزان وأحلام وخيبات.