كان | بعد انقطاع دام ١٨ عاماً، عاد المخرج الجزائري المشاكس مرزاق علواش (1944) الى «مهرجان كان السينمائي» ليقدم جديده «التائب» ضمن تظاهرة «أسبوعي المخرجين» التي أطلقت شهرته، حين احتضنت باكورته «عمر قتلاتو» (١٩٧٦). في «التائب»، يواصل صاحب «مغامرات بطل» (١٩٧٨) من حيث توقف في «باب الواد سيتي» عام ١٩٩٤. آنذاك كانت الجماعات الاسلامية المسلحة تقض مضاجع الجزائريين، مخلفة مئات القتلى في مجازر بشعة.
لذا، اعتُبر عرض «باب الواد سيتي» على الكروازيت مرافعةً ضد الظلامية والتطرف، وإعلاء لصوت الضمير الجزائري الدامي. لكن الوضع انقلب الى النقيض تماماً. منذ العرض الاول لـ«التائب»، يواجه مرزاق علواش حملة مكارثية شرسة في الاعلام الرسمي الجزائري، ومحاولات تخوين تطعن في وطنيته ونزاهته الفكرية (راجع المقالة أدناه).
في منتصف التسعينيات، كان التصدي لظلامية الاسلاميين ولفساد نظام الحكم الذي يغذي تلك الظلامية ويزيدها راديكالية، موقفاً طليعياً يوصف صاحبه بالشجاعة وصفاء الرؤية. لكن انحرافات عقدين من السياسات البوتفليقية قلبت جدلية الجلاد والضحية. واذا بمرافعة علواش في «التائب» دفاعاً عن ضحايا الإرهاب، وشجبه لـ«قانون الوئام المدني» التي أدت الى تبييض صورة القتلة من دون محاكمة، تقابل بزوابع من الجدل، بوصفها «إساءة الى سمعة الجزائر وكرامتها»!
الهجوم على مرزاق علواش في الاعلام الجزائري الموالي للنظام ليس بالأمر الجديد أو المفاجئ. بدأت الحملة على صاحب «الرجل الذي كان يحدق الى النوافذ» (١٩٨6) منذ أن أنجز فيلمه «حراقة» عام ٢٠٠٩. ثم ازدادت حدة الهجمات بعد «نورمال» (٢٠١١). لم تشفع لمرزاق علواش الجوائز العديدة التي نالها الفيلم، والرواج العالمي الذي حققه. لقد تسبّبت نبرته النقدية في قطيعة نهائية بينه وبين المؤسسات الثقافية الرسمية في بلاده، ليصل الأمر بوزارة الثقافة الجزائرية الى رفض التكفل بنفقات سفر فريق الفيلم الى «كان»، ومنع ممثلي مرزاق علواش من دخول الجناح الجزائري في القرية السينمائية العالمية التي تقام على هامش المهرجان. جاء ذلك رداً على تصريحات علواش التي اعتبرت معادية للنظام الحاكم في الجزائر، في حين يقول المخرج إنّ تلك الانتقادات صادرة عن «بعض الذين لم يطيقوا رؤية وجههم البشع في الفيلم» (راجع فيديو الحوار المصوّر الذي خص به مرزاق علواش موقع «الأخبار»).
بالرغم من كل هذا الجدل، يصر مرزاق علواش على أنّ «التائب» ليس فيلماً سياسياً. ويقول إنّ قصته مستوحاة ــ على غرار جميع أفلامه ــ من حادثة واقعية قرأها في الصحف الجزائرية عن «إرهابي تائب» (تسمية تطلق في الجزائر على الإسلاميين المسلحين الذي استفادوا من العفو بموجب «قانون الوئام») تواطأ مع شبكة إجرامية لابتزاز عائلات الضحايا المفقودين في سنوات الإرهاب، من خلال إيهامهم بأنه يعرف قبور ذويهم المفقودين، ويمكن أن يدلهم عليها مقابل فدية مالية.
جعل علواش من هذه الواقعة محور قصة الفيلم: حين يعود الإرهابي التائب «رشيد» (الممثل نبيل عسلي) الى مسقط رأسه في بلدة سيدي موسى، يقابل بعدائية من قبل كل السكان باستثناء لخضر (خالد بن عيسى) ومطلقته (عديلة بن ديمراد). الأخيران يأملان أن يقبل «التائب» باسم الصداقة القديمة التي جمعتهما به، في عهد ما قبل «العشرية الدامية» بأن يدلهما على قبر ابنتهما التي خطفت وقتلت على يد الجماعات المسلحة. وإذا بجهات مجهولة (يلمّح الفيلم الى أنّها مرتبطة بالاستخبارات التي تسهر على حماية الإرهابيين التائبين) ترى في حرقة الأهالي على ذويهم المفقودين فرصة لإقامة «بيزنس» من نوع خاص يتمثل في ابتزاز عائلات ضحايا الإرهاب.
تسليط الضوء على هذا النوع من الصلات المشبوهة بين أجهزة الاستخبارات والإرهابيين التائبين ليست السبب الوحيد الذي أثار حفيظة السلطات الجزائرية ضد مرزاق علواش. الفيلم أبرز أيضاً مفارقات سياسة الوئام التي جعلت النظام العسكري الحاكم يوفّر حمايةً رسمية للإرهابيين التائبين المستفيدين من العفو الرئاسي، فيما كانت السلطات تبرر عجزها عن ضبط الأمن خلال سنوات الإرهاب، بأنّها «لا تستطيع وضع جندي وراء كل مواطن لحمايته من الجماعات المسلحة» وفق الجملة الشهيرة التي أطلقها الجنرال خالد نزار عام ١٩٩٤. لكن الأجهزة الأمنية ــ يقول علواش ــ لا تجد مانعاً من أن تضع جندياً أو شرطياً وراء كل مواطن حين يكون الهدف التجسس عليه وليس حمايته!