لهذه المسرحية (الزعيم الصغير) قصة تعود الى الستينيات من القرن الماضي، وقت كانت بيروت في عز فورتها الثقافية وواحة للإبداع الفني والأدبي، وعندما كانت صحافتها صحافة كل العرب، ومسرحها حلبة واسعة للتجارب المتعددة الاتجاهات والألوان في المسرح، من كلاسيكي وتجريبي ومعاصر، برواد مغامرين ما زالت اسماؤهم تلمع الى الآن.
كانت بيروت الستينيات عاصمة الشعر والتجارب الأدبية المتعددة في اللغة والكتابة. كانت هناك مجلة «شعر» يوسف الخال وتيارها. وكانت هناك مجلة «حوار» لتوفيق صايغ وخياراته الأدبية. وكانت هناك مجلة «الآداب» لسهيل ادريس، حاملة لواء الأدب القومي الملتزم. وكانت هناك مجلة «الطريق» لكتّاب ومفكري اليسار الشيوعي المتعدد المشارب والاتجاهات.
كانت بيروت، المدينة، أرحب صدراً واوسع جغرافية. كان نساؤها اكثر جمالاً وشبابها أكثر اقداماً وحيوية وشيوخها أكثر انفتاحاً، وحكامها أقل تحيزاً لمن هم خلف الحدود. كانت مقاهيها الرحبة أقل عدداً إنما أكثر اتساعاً وأناقةً وأكثر صخباً. وكانت خماراتها وباراتها وحاناتها المنتشرة بين الحمرا وشارع فينيسيا مضيافة تقدم لك الكأس مع ابتسامة من النادلة. كان عدد فنادقها أقل انما اكثر ارستقراطية وأناقة بخدماتها الرفيعة المستوى التي اشتهرت بها. كانت بيروت الستينيات واحة دائمة للانفتاح الثقافي والتعددية والفكرية. كان الفنانون التشكيليون على مختلف مدارسهم الفنية، اكثر من أن تستوعبهم جدران مائة غاليري في العاصمة. كان كل ذلك عصر عز للثقافة من دون أن يكون هناك وزارة للثقافة. عز لم تعرفه قبلاً، انحدر بعد سنوات الى حرب أهلية بشعة مدمرة.

■ ■ ■


في العام 1961 كنت قد عدت من دراستي في انكلترا وبدأت العمل في الصحافة اللبنانية، محرراً ثقافياً وسياسياً مهتماً بالشعر والفنون التشكيلية والمسرح والنقد أكثر من اهتمامي بالسياسة. وكنت قد ادمنت المسرح الانكليزي اثناء وجودي في انكلترا وعرفت معظم مسارح لندن في «الوست اند» و«نيو انكليش تياتر» في «سلون سكوير» الذي كان يقدم مسرحيات الكتّاب الشباب الجدد، ومن أبرزهم في حينه جون اوزبورن، صاحب المسرحية الشهيرة «انظر الى الوراء بغضب»، وكتبت في الصحافة التي عملت فيها عن المسرح الانكليزي. وبطبيعة الحال، كنت أتابع المجلات والصحف البريطانية، وخاصة صحف الأحد التي كانت تهتم بالنقد المسرحي، ومن بينها مجلة شهرية تعتني بشؤون المسرح اسمها «بلايز أند بلايرز» التي كانت تنشر نصوصاً مسرحية جديدة لكتّاب شباب. وفي أحد الاعداد (لا اذكر تماماً اي عدد لأنه لم يعد في حوزتي) الصادرة في العام 1964، كانت مسرحية دايفيد هاليويل «مالكوم الصغير» هي موضوع غلاف ذلك العدد. وعرضت هذه المسرحية لأول مرة في العام 1965 على «مسرح يونيتي»، وقام هاليويل نفسه بتمثيل دور مالكوم ومنح بعدها جائزة جريدة الـ«ايفننغ ستاندرد» لأفضل شاب مسرحي واعد.
ولفتت نظري هذه المسرحية لاسقاطاتها السياسية على الحياة السياسية العربية. كان العصر العربي عصر جمال عبد الناصر، يعيش نشوة انتصار حرب السويس 1956 بعد تأميم القناة والمد القومي والوحدوي قبل توالي مسلسل الهزائم. وكان أيضاً عصر بداية تقلص الحريات، وبداية ارهاصات ما قبل حرب 1967 والهزيمة الكبرى التي لحقت دنيا العرب، عسكرياً وفكرياً وثقافياً وسياسياً من بعدها.
ولمعت فكرة ترجمتها، وعرضتها على شكيب خوري فتحمس لها، وكان في عز نشاطه وتألقه المسرحي. كانت الدنيا كلها شباباً وحماسة. وكنت قريباً وصديقاً ليوسف الخال، وواحداً من «كومبارس» مجلة «شعر» وجماعتها، وحملت فكرة ترجمتها اليه، وعززَت علاقتي بيوسف الخال اهتمامي بالمسرح والفنون التشكيلية عند انشائه «غاليري وان» الى جانب الشعر والكتابة. إذاً أطلعت يوسف الخال على رغبتي بترجمة مسرحية هاليويل، لأهميتها السياسية اكثر منها لأهميتها الأدبية. ولم يكن لي باع طويل في الترجمة، ولم تكن عندي حماسة المحترف لخوض العمل في الترجمة في غمرة عملي في الصحافة وحماستي للشعر والنقد. وكان رصيدي الوحيد في مجال الترجمة عن الانكليزية كتاب الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان الذي كان استاذاً في «جامعة برينستون» في الولايات المتحدة، بعنوان «جدوى الفلسفة» صدر عن «مؤسسة فرانكلين» في بيروت العام 1963. وكان كتاباً صغيراً مؤلفاً من ثلاث مقالات عن الفلسفة لا يتجاوز عدد صفحاته المئة.
وكانت نصيحة يوسف الخال لي أن لا اتعامل في ترجمتي لهذه المسرحية كأنها كتاب في الفلسفة، وهو الحامل لواء الدعوة الى استعمال اللغة المحكية الخالية من قواعد الاعراب والتي هي أقرب الى لغة الصحافة اليومية السيارة. وتمنيت على يوسف الخال أن يقرأ الترجمة ويقربها من اللغة المحكية وينقحها من الألفاظ التي يعتبرها «مقعرة» لتصبح اقرب الى الناس العاديين الذين سيشاهدون هذه المسرحية ويتفاعلون معها، وهنا فضل يوسف الخال على هذه المسرحية. ووضع شكيب خوري بصماته أيضاً على الترجمة وقام بإنتاجها واخراجها.
ولما اكتملت الترجمة وانتهى النقاش الطويل حولها، تقدم شكيب خوري بصفته المنتج والمخرج الى مصلحة الرقابة في وزارة الأنباء (وزارة الاعلام اليوم) التي كان يرأسها في حينه المير حارس شهاب طلباً للإذن بالتمثيل. وأجازت الرقابة اللبنانية بتاريخ 9 أيار (مايو) 1967 المسرحية. وتم افتتاح عرضها في «مسرح بيروت» عين المريسة يوم الخميس 8 أيار 1967. ونالت مسرحية «الزعيم الصغير» (أو «مالكولم الصغير» العنوان الأصلي) نصيبها من الحضور والاقبال والنقد. وكانت حدثاً مميزاً في المسرح اللبناني في بيروت الستينيات.

■ ■ ■


بعد هزيمة 1967، أصبحت هذه المسرحية جزءاً من التمرد على دفاتر النكسة الثقافية والسياسية ورمزاً من رموز الدعوة الى العصيان ضد التسلط بمختلف أنواعه، لتصبح مع مرور الزمن أيقونة من أيقونات المقاومة الثقافية ضد الطغيان.
واليوم في عصر «الربيع العربي» بعد انقضاء أكثر من نصف قرن على ترجمتها وعرضها، ها هي مسرحية دايفيد هاليويل أكثر قرباً من أحداث الثورات الراهنة التي اسقطت الديكتاتوريات العربية، أو هي تحاول، وبالتالي صار لها رمزية حقيقية لكل المتابعين والباحثين في شأن الثورات الثقافية. إنّها تحية لبيروت الستينيات، و«نوستالجيا» للثقافة المنفتحة والمسرح الخلاق.
رياض نجيب الريس
بيروت، أيار (مايو) 2012



حفاوة وجوائز

قدّمت مسرحية «مالكوم الصغير» للمرة الأولى في «مهرجان دبلن» في إيرلندا عام 1965، ثم قدّمت في لندن عام 1966 بممثلين ومخرج وفنيين شبان ظهروا للمرة الأولى على مسرح محترف هو خشبة «غاريك». ومن هناك انتقلت إلى برودواي في نيويورك، لتحظى بحفاوة كبيرة، ما أهّل دايفيد هاليويل للفوز بجائزة الـ«أوبزرفر» لأفضل مسرحي لعام 1966 في بريطانيا.