صارحني أصدقاء بخيبتهم من مقالي الأسبق «إلى الخائفين». كان استغاثة سلام وسط غَلَيان الانقسام، وهم يفضّلون أن ينحاز الكاتب ليعرفوا أَمَعهم أم ضدّهم؟ إذا ضدّهم لعنه الله، وإذا معهم فليزدهُم يقيناً.
■ ■ ■


أفهم التعطّش إلى الكتابة المنحازة، فهي تفرّج، ولا سيما في ما يتعلّق بسوريا، فما أكثر المتحايلين هنا ومتجنبي تسمية الأشياء بأسمائها، لا خوفاً من الاغتيال فحسب بل تحاشياً لإغضاب القارئ، والقارئ السوري، لمَن يعرف، غالٍ جدّاً على القلب. أفهم التعطّش إلى الصراحة، إلى الانحياز والحسم، وأفهم الانزعاج من التبشير الأخلاقي الذي غالباً ما يبعث على الملل إنْ لم نقل على استهبال الكاتب. أنا أيضاً عندما أقرأ، أتعطّش إلى ما يَشْرح صدري ولا أطيق الدوّارين والدراويش. قد أكون منهم أحياناً ولكن هذا لا يتناقض وكوني لا أطيقهم، لأنّي لا أطيق نفسي حين أتشاطر، مستسلماً لمستلزمات الإقامة في ظلال أنظمتنا «الديموقراطيّة» ومجتمعاتنا الطيّبة المتعصّبة.

للتذبذب في الموضوع السوري أسباب سوريّة: السلطة في الشام ذات وجهين واحدٌ ناعم وآخر دمويّ، والثورة في الشام ذات وجهين واحدٌ علماني وآخر إسلامي. التباساتٌ وباطنيّات بلا نهاية. وحده هنا الدم صادق، واضح. لذلك هو الذي نادانا وهو الذي نحْنا فوقه. الدم، دم الأطفال خاصةً، فوق الجميع ويحكم على الجميع ما دام التضليل سيّد الموقف وما من محكمةٍ تُسمّي الفاعلين وتجلبهم إلى القاعة. إذا قرأنا «الشرق الأوسط» و«الحياة» نجد أنّ المرتكب هو النظام والنظام وحده، وإذا قرأنا «الأخبار» نجد أن النظام فريسة مؤامرة كونيّة لأنه ممانع رافض للمخطّطات الأميركيّة. إذا شاهدنا «الجزيرة» نستغرب أن يكون هناك بَعْدُ ناس أحياء في سوريا حيال هذه الشلالات المتواصلة من القذائف، فضلاً عن اشتراك الدبابات والطائرات والشبّيحة والمرتزقة، وإذا شاهدنا «الدنيا» أو «سوريّة» فكلّ شيءٍ هادئ على الجبهة ما عدا بضع جرائم ارتكبتها عصابات مسلّحة.
هل نلوم الإعلام؟ الإعلام تتمّة (أو صدارة) للأنظمة والطوائف. ولن نظلم العرب فنحصر الوصف بهم، لقد رأينا الأضاليل في الإعلام الأميركي والصحافة الأوروبيّة إبّان غزو العراق وما قبل الغزو وما بعده. وحتّى اليوم لم يُحاسَب أحد، لا بوش ولا بلير، على تزويرهما التاريخ. لم تحاسَب أميركا وحلفاؤها وإعلامهما الحرّ على الإبادة العراقيّة ونهب النفط والكنوز وتفسيخ ذلك البلد العظيم الذي سمّاه المسعودي مفتاح العالم. لا يزال إعلامنا العربي رغم انحيازاته المضحكة المبكية بريئاً إذا قورن بالإعلام الأميركي وتوابعه في الإعلام الأوروبي. لن نظلم صحفنا وإعلامنا لكنّنا لا نبرّئهما. لا يتجرّأ أحد في خضمّ الانقسام الأفقي والعمودي العربي والشرق الأوسطي أن يرتفع فوق المذبحة ويُقرّع الجميع بصوت الحقّ. الطائفيّة أقوى من العقل والمذهبيّة أقوى من الطائفيّة. لا أحد من القادرين يريد السلام. لا يريد السلام غير العُزّل والفقراء والذين يأكلون خبزهم كفاف يومهم. لا يريد السلام غير الذين انشغلت غرائزهم بهاجس النجاة والبقاء على قيد الحياة.
لم يعد أحد راغباً في عدم الخطأ ولا مترفّعاً عن الجريمة. هناك ما هو أشدّ فتنةً من الموت والحياة: هناك الفخّ. أحياناً لا تعود العقول (والجيوب والأنياب) قادرة على مقاومة السقوط. لو وقعت هذه العقول (والجيوب والأنياب) وحدها لهانت الوقعة، لكنّها تجرف معها الشعوب. وغالباً ما تجرف الشعوب وتبقى هي في حرز حريز من دفع أيّ ثمنٍ كان.


■ ■ ■


ليتني أستطيع أن أنحاز. مع الهلال الشيعي، مع الاوقيانوس السنّي، مع الأكراد، مع الأقباط، مع الوهّابيّة، مع الطالبان، مع حسن الصبّاح، مع أُسامة بن لادن، مع حلف الأطلسي، مع السي. آي.اي، مع الغول والعنقاء والخلّ الوفي. ليته كان لي هذا التَرَف. لكنّي أمْيَعُ من أن أتكوّم في كتلة وأَحْيَرُ من أن أقف في الصفّ. شارلو المرتخي الهندام أشدّ صلابةً وأعرَفُ هدفاً منّي. أنا هواءٌ فوق الماء.
أنا ابن 1958، وابن 1975 وما بعدها، أنا ابن الضحك علينا. أنا ابن الخوف من المسلم الذي سيذبحني، والدرزي الذي ذبحني، والمسيحي الذي ينبذني. أنا ابن الخوف من كل ضربةِ كفّ لأنّها تنقلب حرباً أهليّة. أنا ابن اليقين من أنّنا نحن العرب متخلّفون سياسيّاً، عميانٌ لا نقرأ، صُمٌّ لا نسمع، بُكْمٌ إلّا في تهريجات الصراخ والعويل. أنا ضنينٌ بموقفي لأنّي طُعِنتُ في براءتي، ضنينٌ بكيانيّتي الوجدانيّة لأنّي أمضيتُ العمر ممزّقاً بين هذا يشدّني إلى اليمين وذاك إلى اليسار، وأنا فيَّ منهما، وفيَّ من غيرهما، وفيَّ ما لا أزال أبحث عنه. لا المسيحي يمثّلني ولا المسلم، واللبناني، ببساطته وجنونه، حيناً يأخذني إلى الانتحار وأحياناً إلى الاختناق.
لا أريد أن أنقسم.
لا قنابل الجيش السوري في حروب لبنان جعلتني أكره سوريا، ولا علمانيّة نظام الأسد تقنعني إلى حدّ الانحياز له ضد الشعب المقهور روحاً وجسداً. لا أريد أن أكون نصفين، أنا واحد، مشلّع، مملّع، ولكن أريد أن تبقى فيَّ تلك الزاوية العذراء قطعة واحدة. التعصّب يقتلني. الحقيقة، عندما أراها سترهق طرفاً أكثر من طاقته، لا أتصلّب فيها.
الشفقة معياري لا العدل. أفهم العداوة ولا أفهم الجريمة. لا أكتب في السياسة التزاماً بخطٍّ عقائديّ أو حزبيّ، بل خوفاً على الناس. نحن اليوم، في لبنان وسوريا والعراق وسائر الدنيا العربيّة، نجتاز نفقاً لا أحد فيه يخاف على أحد، بل كلّهم يخافون بعضهم من بعض.
لا يستهويني نظام الأسد ولا أيّ نظامٍ ديكتاتوريّ يحسب البلد ملكه الشخصي والشعب عدوّاً ولا تقنعني علمانيّةٌ تستفزّ المذهبيّة ولن أصدّق علمانيّة نظام عربيّ إلّا يوم يفصل الدولة عن الدين فصلاً تامّاً نهائيّاً.
من جهة أخرى لا أجد أيّ صلةِ قُربى بيني وبين الأنظمة العربيّة التي تؤجّج الثورة السوريّة، بالعكس: كون هذه الأنظمة بالذات هي التي تؤجّج يقلقني على مصير سوريا أشدّ القلق، ومهما حاولتُ التجرّد أراني أشتبه في دوافع ذلك التأجيج وأرتابُ في ما يُراد لأقطارنا بعد سقوط طغاتها: ديموقراطيّة السَلَفيّة؟ ديموقراطيّة الفوضى والمذهبيّة؟ فيضانُ التفتّت العرقي والطائفيّ والقَبَليّ؟ أم انقراضٌ بفعلِ حروبٍ أهليّةٍ إباديّةٍ وانفصالاتٍ تولِّدُ انفصالات؟
ولنعد إلى الموقف من الأوضاع السوريّة. مع مَن؟ ضدّ مَن؟ مع ما كان يستطيع أن يفعله الأسد في الأسابيع الأولى من التظاهرات السلميّة ولم يفعله وقد فات الأوان على فعله. نحن مع الحريّة للسوريّين ولو ذهبوا بها إلى الجحيم. حريّة القول والكتابة والفكر والمعارضة والموالاة واستئناف حياتهم المدنيّة الطبيعيّة دون تجسّسٍ عليهم ودون مصادرةٍ ولا اعتقال ولا هذا الوباء البارانويي الذي أصاب سوريا منذ نصف قرن. نحن مع سوريا التي تشبه لبنان حين كان لبنان كما كان قبل 1975. وقبل 1970. وقبل 1967. نحن مع سوريا التي تشبه سوريا قبل البعث وقبل الانقلابات المدمّرة التي افتتحها حسني الزعيم. نحن مع سوريا غير المعقَّدة مذهبيّاً ولا عرقيّاً ولا طائفيّاً، سوريا قلب المشرق لا قلب العروبة وحدها.
أمّا الحرب الدائرة فهي محضُ جنونٍ إجراميّ، والضحايا فيها هم أوّلاً الذين يُقتلون لتغذيةِ القتال، لا الذين يسقطون في ساحات المعركة. وأنا لا أنحاز حيث كل انحياز تعزيز للقتل، ولا أنحاز لأنّي أتّسع للمختلفين ما دمتُ أحبّ الإنسان في كلٍّ منهم.
لا أنحاز لأنّي لا أملك الحقيقة ولا أحبّ مَن يمتلك الحقيقة.
أنحازُ إلى الأطفالِ والبسطاء والضعفاء.
أنحاز إلى العُزَّل والمخطوفين.
أنحاز ضدّ قَتَلَة الدم البارد والدم الساخن والدم الفاتر.
أنحاز ضدّ مصادر الخوف أينما كانت.

■ ■ ■


كتب الأستاذ زياد منى («الأخبار» 13 الجاري) تعليقاً على مقالي «إلى الخائفين»، حيث قلتُ ما معناه: لن نصدّق بعد اليوم (بعد مجزرة الحولة _ تل دو وذبح ثلاثين طفلاً وسحق جماجمهم) أنّ إسرائيل أكثر بربريّةٍ منّا _ كتب أننا بآراءٍ كهذه «نجلد أنفسنا» و«تاريخنا لا يُختصر في جملةٍ شاعريّة وناقصة المعنى. تاريخنا يكتبه حاضرنا». ثم يذكر أمثلة عن عراقة العرب في التسامح والتعايش وعن تعصّب الصهيونيّة ودمويّة مسيحيّي الغرب ضدّ المختلفين عنهم ولو كانوا يدينون بدينهم نفسه، ويختم أنّ «التاريخ ليس من اختصاص الأدب، وهو في الوقت نفسه ليس وصيّاً عليه».
معروفٌ أنّ الإسرائيليّين يمارسون بعضهم على بعض تمييزاً عنصريّاً بين أشكيناز وسفارديم وأنّ كثيرين من اليهود العرب في إسرائيل يحنّون للعودة إلى أوطانهم الأصليّة، ولا سيما يهود العراق، هرباً من اضطهاد بني دينهم، لكنّنا لم نسمع عن إسرائيليّين ارتكبوا مذابح ضدّ أطفالٍ إسرائيليّين وسَحَقوا جماجمهم، ولا عن آلةٍ حربيّة إسرائيليّة رسميّة تواصل يوميّاً منذ سنة وأربعة أشهر قصف الإسرائيليّين في القرى والمدن تأديباً لمعارضين. إسرائيل تقتل عرباً لأنّها عدوّة. إسرائيل تفتدي رفات يهوديّ واحد بمئات الأسرى العرب. نشكر الله أنّنا في استباحتنا لحياة بعضنا البعض لا نزال مقصّرين عن فظائع الهوتو ضدّ التوتسي.
أمّا «الصلاحيّات» ما بين الأدب والتأريخ فهذه أوّل مرّةٍ أسمع بها. الأدب يشمل ما يريد ولا حدود له غير الوجدان والقلم. وحين يكون التاريخ حدثاً يوميّاً فاجعاً ينعرض أمام الجميع كما في سوريا والعراق لا يعود اختصاصاً للمدوّنين إنّما يصيرُ ويلاً صارخاً يمتحن الضمائر.
هل العقّاد في كتبه عن محمد وأركان الإسلام إلّا أديبٌ في مؤرّخ؟ وطه حسين في دراساته للشعر العربي إلّا أديب في مؤرّخ؟ وجرجي زيدان إلّا صحافيّ في مؤرّخ؟ وفولتير وروسّو وشاتوبريان إلّا أدباء وفلاسفة في مؤرّخين؟ وهل مسرح شكسبير التاريخي إلّا مسرحُ شاعرٍ أكسبَ التاريخ بُعْدَ المعنى الميتافيزيكي وجعله بديلاً من تاريخٍ جامد غاشم؟ وهل لامارتين، كمنجةُ الشعر، في رحلاته المشرقيّة خاصّة، إلّا شاعرٌ في مؤرّخ ومؤرّخٌ وعالمُ اجتماعٍ وبصيرة فلسفيّة في شاعر؟ وهل جيرار دو نرفال في كتاباته عن مصر وتركيا وفلسطين وسوريا ولبنان _ فضلاً عن دراساته حول المستنيرين _ إلّا شاعرٌ أصبحت كتاباته المشرقيّة مرجعاً للأكاديميّين؟
هناك حدودٌ لعلمِ التاريخ لأنّ هناك حدوداً لكلّ علم. لا حدودَ للأدب لأنْ لا حدود للروح.

■ ■ ■


أمام عالَمٍ لا يخيّرنا إلّا بين الذوبان في النمط الواحد والتفتّت في التجزئات، أمام عالمٍ كلّ ما فيه يدعو إلى التشظّي كمرآةٍ صَعَقَتها قذيفة، أَتمسّكُ حتّى الرمق الأخير بملاءتي الروحيّة وبكياني الواحد، أدفن فيه بشاعاتي وأعطي منه ما أتمنّى أن يزيد قريبي حبّاً ويزيدني احتراماً لنفسي.
لم أكن لبنانيّاً ضدّ الفلسطينيّين، ولا مسيحيّاً ضدّ المسلمين، ولن أكون شيعيّاً ضدّ السنّة، ولا سنيّاً ضدّ الشيعة. بما تبقّى لي من وعي، أريد أن أنجو من التلاعب بي.
وهذا ما أناشد إليه كلّ إنسان.

■ ■ ■


أين تختبئ لُعَبُ الوقتِ وما الذي يتحرّكُ وراءَ الجدران؟
لا نعرف.
لا نعرف جذورَ النوايا: تبدأ في الخير، في السوء، في المجانيّة؟
خالقُ الأجنحةِ كيف شاء لها هذا النصيب؟ لماذا هي؟ لماذا يُعطى للعقبان والنسور التحليق، وهي أبشعُ ما فوق، ويُعطى للعصافير والفراش، أحلى ما تحت، ويُعطى للقنبلةِ والنفّاثةِ والقذّافةِ ويُعطى للحبّ واللحن؟
ما هذه المساواةُ المنغّصة؟
خالقُ الأجنحةِ كيف شاء لها هذا التوزيع؟
وهل درى أنّنا يوماً من الأيّام سنسيرُ في الشارع وبقربنا يمشي شخص مثلنا، بلا أجنحة، لكنّه ملاك؟
ملاكٌ جاء ليجعلنا أفضل؟
ليضع علينا بوهجه لمسةَ وَجْد؟

■ ■ ■


ابتسامةٌ واحدة أروعُ من ابتسامةِ الطفل: ابتسامةُ ملاكٍ يغرينا بالسعادة.
وهذا نفسه هو الطفل حين يبتسم.
سلامٌ على الأطفالِ يوم ولدوا ويوم يموتونَ ويوم يُبعثونَ أحياء في عالمٍ لا يقتل الأطفال.