يزداد الوضع توتراً في تونس. يطلق السلفيون سهامهم على عالم الفنون والثقافة. والسلطات الحكومية الإسلامية التي يُزعم أنها معتدلة تدير ظهرها لمن يزرعون الرعب، كما للفنانين الذين يُشبَّهون بأنهم عناصر محرضة متطرفة. مرة أخرى، تنكشف استراتيجية حزب «النهضة» الإسلامي الذي يحكم البلاد. يترك الحزب السلفيين يفلتون من العقاب ليدين لاحقاً وبالاندفاع نفسه المعتدي والضحية على حدّ سواء. وهكذا، يأمل النهضويون إلغاء القوى العلمانية والمعاصرة ويشبّهون وجودها في المدينة بالشرّ الذي يحرّك المتعصبين دينياً. بعد مهاجمة وسائل الإعلام (من خلال قضية فيلم «برسيبوليس» الذي عرضته قناة «نسمة»)، والتعرض للمجال الأكاديمي (خصوصاً في كلية الآداب والفنون في منوبة)، وصل الدور إلى عالم الفنون. تُعتَمَد الحجة نفسها كل مرة: لا يمكن ممارسة الحريات إلا في ظل احترام المقدسات. وبما أننا لا نعرف ما هي المقدسات، لا أين تبدأ ولا أين تنتهي، يتبين أنّ هذا الشرط المقيّد يقوّض الحريات.
يوم 10 حزيران (يونيو)، بعد التهديدات التي أطلقها السلفيون خلال النهار، توغلوا ليلاً في «قصر العبدلية» الذي يعود إلى الحقبة الحفصية ويؤوي «معرض ربيع الفنون». هناك، دنسوا الأعمال الفنية المثيرة للجدل، وجرى تمزيق عشرات اللوحات وتدميرها. من خلال أعمال التخريب هذه، يظهرون برباريتهم وجهلهم. فلنأخذ مثلاً أحد الأعمال الفنية التي اعتبرت مدنِّسة في حين أنّه يُصنَّف أكثر من أي عمل آخر في خانة المقدّسات بحسب تعريفنا نحن لهذا المصطلح. يتعلّق الأمر بلوحة تجسّد صيغة التسبيح «سبحان الله» (عبارة ثابتة يتفوّه بها المسلمون بنبرة تعجّب للتعبير عن مشاعر الإعجاب أو الدهشة). مجموعة من النمل ترسم حروفاً. والنمل الذي يرسم حرف الألف الذي تبدأ به كلمة «الله» يتابع طريقه إلى أن يتغلغل في رأس كائن بشري بغية تشكيل مؤونة من دماغه وسلبه القدرة على الحكم. ربما بهذه الطريقة يرمز الفنان إلى جراحة فصوص المخ التي تُنتِج شخصاً سلفياً.
بيد أنّ هذا العمل الفني يتمتع بطابع شرعي مزدوج: من خلال قدسية الفن كما من خلال قدسية الصوفية. أولاً، ينبع اللجوء إلى النمل من استعمال سلفادور دالي له في لوحاته. نرى لدى الفنان السريالي الكاتالوني النمل الأسود منكباً على عمله على مفاتيح البيانو البيضاء. يُنشئ هذا الظهور غير العادي صدمة للنظر تثير العواطف. يكيّف الفنان التونسي هذا العنصر الذي ينتمي إلى ذاكرة الرسم مع الوضع الذي يعيشه في بلاده. من خلال هذه الاستعارة التي أعاد توجيهها، يتصرف كفنان عالمي. وهذا الوضع تحديداً هو الذي يصدم الإسلامي المتمسك بهوية منغلقة على نفسها.
فضلاً عن ذلك، يستثير التقليد الإسلامي جرأةً من المخيلة الخلاقة التي حوّلت الصيغة المقدسة التي كررها الفنان التونسي. تخرج عبارة «سبحان الله» متحوّلة من شفتي أحد أعلام الصوفية الأوائل أبو يزيد البسطامي (الذي توفي عام 842): تُلفَظ «سبحاني»: «سبحان الله» تصبح «سبحاني أنا». يستولي ضمير المتكلم على عبارة تُصرّف طقسياً باستعمال ضمير الغائب. الله الغائب أصبح موجوداً في جسد المتكلم. يوضَّح هذا التجسّد من خلال «الشطح»، مصطلح يندرج في معجم الصوفية التقني وقد تُرجِمَ بـ«التناقض المستوحى»، «تعبير طوباوي»، «تعبير عن النشوة»، «الفيض». تعني هذه الكلمة بالعامية فيضان النهر أو كسر الحبات التي تتطاير من حجر الرحى. كذلك، تعني هذه الكلمة الانغماس الديونيزي الذي يختبره المرء عندما يكون مبتهجاً بالنشوة، وقد أنعم وأغدق عليه الله الكلي القدرة من فيضه. تعبّر «سبحاني» التي تحل محل «سبحان الله» عن الطاقة الشعرية التي تبلغ ذروتها لدى المتصوّف عندما يتحدّث الله عبره. جرى التأمل بانتقال الله إلى ضمير المتكلم خلال أكثر من ألف عام، تشهد على ذلك مراجع أدبية ضخمة باللغة العربية وباللغة الفارسية. يذيّل هذا الإقرار أحد أشكال المقدسات في جوهر العقيدة الاسلامية. لكن نعرف أنّ الإسلاميين يكرهون هذه المقدسات ويحاربونها. يلعن السلفيون ما تبقى من هذه المقدسات في الصوفية الشعبية وفي عبادة القديسين التي أعاد فنان معاصر إحياءها هنا. يُذكر أنّ السلفيين باشروا في تونس بهدم القبور المقدّسة عارضين مشاهد جسدت النشوة.
بالتالي، فإنّ هذا العمل الفني المثير للجدل والمشبّه بالحرام والكُفر الذي ينبغي حظره في المدينة بحسب منطق السلفيين الجاهلين والمدعين، يكتسب شرعيته المزدوجة من دالي عن الكرامة التصويرية ومن البسطامي باعتباره واقعاً حضارياً أكثر انفتاحاً، أكثر تناقضاً، أكثر تعقيداً مما يتحمله السلفيون والإسلاميون. تكرّم هذه الشرعية المزدوجة قدسية الروح التي استهزأت بها الرقابة الإسلامية.
أكتب هذا النص أثناء إقامتي في برلين. غير أنّ تاريخ ألمانيا يقدّم سلسلات كفيلة بإيضاح الأحداث في تونس. يدّعي إسلاميّو «النهضة» أنّهم من أتباع ديمقراطية إسلامية مشابهة للديمقراطية المسيحية كما هي ممثلة من خلال الحزب المحافظ على سبيل المثال الذي تنبثق عنه الحكومة التي تقودها أنجيلا ميركل. بيد أنّ الديمقراطيين المسيحيين لا يتدخلون أبداً في الإبداع الفني ولا في الأعراف. لا ينحصر مفهومهم للحرية في المقدسات. تستضيف برلين عشرين ألف فنان تقريباً من العالم كله يعيشون فيها ويقدمون إبداعاتهم بحرية مطلقة، من دون أدنى قيود أخلاقية. ينبغي أن يعرف الإسلاميون وحلفاؤهم الذين يطالبون بنموذج الديمقراطيين المسيحيين أنّ هؤلاء يتصرفون تبعاً لإملاءات ذاكرة تشكّلت بما يتماشى مع مبادئ التعليم الكانطي العالمي لعصر التنوير، وأولها الاحترام غير المشروط للفرد الحر. إضافة إلى ذلك، التقيت في برلين مسؤولاً عن مؤسسة مقربة من الحكومة ومتخصصة في الانتقال إلى الديمقراطية. قدّم اندماج ألمانيا الشيوعية بالدولة الديمقراطية خبرة لهذه المؤسسة في مجال الانتقال من التوتاليتارية إلى الليبرالية، ومن الإجماعية إلى التعددية، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية. وقد حشدت هذه المؤسسة جهودها لمصلحة الثورة التونسية منذ هرب الديكتاتور في 14 كانون الثاني (يناير) 2011. كان المسؤولون فيها مستعدين للاستثمار في سبيل إنجاح المرحلة الانتقالية. بيد أنّ الخبير في هذا المجال نقل إليّ خشية مؤسسته في مواجهة محاوريها النهضويين الذين يحكمون تونس. فهؤلاء لا يشعرون بأنّهم معنيون إلا بجزء من البرنامج متعلق بمحو بقايا النظام الساقط؛ ويتبين أنهم أكثر من مضطربين ما إن يتعلق الأمر بوضع جهاز يمنع العودة إلى الديكتاتورية. وكأنّ النهضويين يتركون هذا الاحتمال مفتوحاً لأنفسهم.
أمام هذا الغموض المثير للشك، يظهر وجه الشبه الألماني الثاني، ذاك الذي يعيد إنعاش ذكرى «الحزب الاشتراكي الوطني» الكارثية. وصل هذا الأخير إلى السلطة عبر السبل الديمقراطية ليفرض لاحقاً رؤيته التوتاليتارية. بدأ عهد ظهور الديكتاتورية الذي لا يقاوم عبر الهجوم على الثقافة والفنون. لنعد إلى عام 1933. بعد فوز النازيين في الانتخابات، بادروا إلى تنقية الثقافة والفنون قبل أن تهيمن إيديولوجيتهم المدمرة على شعبٍ بأكمله. في 10 أيار (مايو) عام 1933 في دار الأوبرا في برلين، أُحرِق 20 ألف كتاب اعتُبِر غير ألماني أو مناهضاً للألمان. بسرعة كبيرة، لم يعد هناك متنفس في برلين التي كانت أشبه بمستشفى للروح. قبل بضعة أسابيع، في مسرحية «شلاتر» Schlageter التي كتبها جوست وعُرضَت في 20 نيسان (أبريل) للاحتفال بعيد ميلاد الفهرر (القائد هتلر)، قالت إحدى الشخصيات: «عندما أسمع كلمة ثقافة، أُخرِج مسدسي»، الشعار الذي سيطبّقه النازيون.
وفي الجو المحزن الذي تعيشه تونس التي سلّمت أمرها للمتعصبين، أتذكر جملة أخرى لشاعر ألماني من الحقبة الرومنسية، هنريش هين الذي كتب: «حيثما تُحرق الكتب، سيُحرَق الناس في نهاية المطاف». لسوء الحظ! أثبت التاريخ باستمرار شعور هين المسبق. في فورة المساجد التي استسلمت للفتنة، تُوزّع «فتاوى» تطالب بإعدام فنانين عرضوا لوحاتهم في المرسى. وبهذه الطريقة كما يقولون، يبيحون لكل شريك في الجرم إراقة دم هؤلاء.
من الواضح أنّ هؤلاء المتعصبين الذين يضرمون البلاد ويعيثون فيها خراباً، سيقدّرون كامل هذا النص (إذا اطّلعوا عليه). يُذكر أنّ مراجع هذا النص تعتبر لاغية وباطلة، لناحية خباياه وتفاصيله كما لناحية أفق التفكير فيه. في الواقع، يسلط هذا النص الضوء على العالم الذي لا يسكنه برأيهم إلا الصليبيون (دالي، كانط)، واليهود (هين)، والكفار الزنادقة (البسطامي). وهذا الشخص نفسه الذي كتبه سيضيف اسمه إلى لائحة المنبوذين. مهما كلّف الأمر، هذا هو العالم الذي سنطالب به لمقاومة البربرية.
* شاعر ومفكّر تونسي