يبدأ أنطوان أبو زيد كتابه «مدخل إلى قراءة قصيدة النثر» (دار النهضة) بالإشارة إلى أنّ «الشاعر قلّما يتأمل في صنيعه الشعري»، وأن «الناقد وحده أُعطيَ النظر في إبداعية الشاعر». إشارةٌ توحي بأن الجمع بين الكتابة والنقد هو الطريقة الأفضل لتأمين مقاربة حقيقية وصائبة لما يحدث من تطورات في الشعر العربي المعاصر، وفي قصيدة النثر تحديداً، لكنّ الحيوية النقدية التي نظن أنها ستتحصل من قراءة شاعر متميز لتجارب غيره، تتراجع قليلاً مع إعلانه خطّة أكاديمية تقضي بوضع التجارب المدروسة في عهدة البنيوية و«منهجيتها الرموزية» المحكومة ببرودة نظرية وتطبيقية صارمة. لا يستسلم صاحب «أعمق من الوردة» لهذه المنهجية على نحو كامل، لكنّ انضباطها الألسني والسيميولوجي يُقيّد فضاء التلقي لديه، ويدفعه إلى الانشغال بـ«جدولة» كلمات القصائد، وإنشاء «شبكات تحليلية» لدلالاتها على مستوى الصورة، والمعجم، وبنية القصيدة. منهجية كهذه تؤخِّر قراءة الشعر قليلاً لصالح تفكيك حقوله الألسنية، وتجعل القراءة ذاتها محكومة بتطبيقات ميكانيكية تعرّضت لانتقادات واسعة في بيئتها الغربية.
لا تُنقص هذه الملاحظات من ذكاء الدراسات الثلاث التي يتضمنها الكتاب. ذكاءٌ ممزوج بحساسية نقدية سبق للقارئ أن وجدها في قصائد أنطوان أبو زيد الخاضعة لتقشف لغوي وكثافة تصويرية تجعل من صاحبها ناقدها الأول. يقدم أبو زيد في الدراسة الأولى «مقاربة رموزية» لقصيدة النثر بعد أنسي الحاج، متمثلةً في تجربتي بول شاوول وعباس بيضون، ساعياً فيها إلى الكشف عن مآلات قصيدة النثر بعد زمن ريادتها. من خلال ديواني «وجه يسقط ولا يصل» و«أوراق الغائب»، يشير إلى تواصل أسلوبي طبع تجربة شاوول منذ البداية، وإلى «ملامح وجودية وغنائية» منطوية على «ذاتية داخلية» تُعادي العالم الخارجي في معظم دواوينه، بينما يركِّز في تجربة عباس بيضون على ديواني «نقد الألم» و«حجرات»، معايناً «الأبعاد الغرائبية» لاستعاراته «العصية على الحصر والتأويل». في الحالتين، اعتمد أبو زيد على الرموز المعجمية، وربطها بدلالات نفسية وواقعية في ضوء المنهج الألسني الذي يقوم على «استقلالية النص الشعري»، ويُتيح «القدر الأكبر من الموضوعية للباحث والناقد». لا ينكر أبو زيد تأويلات أخرى يمكن استخلاصها من النصوص، لكنه يكتفي بالإشارة السريعة إليها داخل مقاربته السيميولوجية.
في الدراسة الثانية التي تحمل عنوان «إبداعية قصيدة النثر»، يخصص المؤلف بحثاً كاملاً لقراءة المستويات الدلالية في قصيدة «كفار باريس» لعباس بيضون، حيث يقارن مكونات القصيدة مع الإشارات اللغوية والنحوية فيها، مركزاً على شعرية النثر «المعادية للتراث»، واللغة المشغولة بـ «نثر الحياة الواقعية». مقاربةٌ كهذه تمنح حيزاً أوسع من الدراسة الأولى لخلاصات وتأويلات تتجاوز السقف الألسني واللغوي إلى محاكاة التجربة الشعرية من الداخل، ومقارنة الممارسات المعجمية لبيضون مع ممارسات مماثلة لدى شعراء أمثال: وديع سعادة، وسركون بولص، وأمجد ناصر وكاظم جهاد. أسماء إضافية تفتح كوةً أوسع لمرور المنهجية البنيوية محمولةً بجرعات نقدية من مناهج أخرى. كوةٌ تفتح دراسة مستقلة حول «المعجم والإيقاع والبِنَى في أعمال: وديع سعادة، عبده وازن، بسام حجار»، وهو عنوان البحث الأخير في الكتاب. ويركّز فيه أبو زيد على المستويات المعجمية والإيقاعية والتركيبية، بالاعتماد على قراءة أسلوبية مقارنة تضع التجارب الثلاث داخل حيوية قصيدة النثر في حقبة الثمانينيات.
بطريقة ما، تبدو الدراسات الثلاث مكملة بعضها لبعض، حيث تتوالى مقاربة التطورات التي لحقت بقصيدة النثر، لكن حصر الدراسة بشعراء لبنانيين جاؤوا بعد أنسي الحاج، يجعل عنوان الكتاب أوسع من الدراسات التي بين دفّتيه.