يكاد تلقّي نبأ وفاة الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي وطريقة التعامل معه أن يكونا حدثاً داخل واقعة النعي. يصعب تجاهل الفارق في تلقّي الخبر وتغطيته الإعلامية في العالم العربي والإسلامي وفي بلده فرنسا بالذات. هنا، أي في فرنسا، غلب الحذر والخفر، بل حتى التكتم وتفادي الطنطنة والتوسع. بعض المحطات الإذاعية أذاع الخبر على عجل، فيما تكتمت قنوات إخبارية تلفزيونية عنه، وكذلك تأخرت الصحف في نقله، إلى حد أنّ كثيرين من متابعي الأخبار، ومنهم كاتب هذه السطور، لم يعلموا بالوفاة إلا بعد يومين. هذا الخفوت الذي يشبه الهمس هو طريقة مدروسة في التغطية بالحد الأدنى. إنه نوع من فعل الشيء على مضض حرصاً على المبدأ وتأدية الفرض لا غير. علماً بأن الرجل الذي توفي في ضاحية باريس عن 98 عاماً ليس نكرة. هو شخصية فكرية وسياسية عاصرت بقوة وحيوية ــ على طريقتها ومزاجها السجالي ــ كبرى المناظرات والتقلبات والمراجعات النقدية في القرن العشرين.هذه التغطية الهامسة والمترددة ليست بلا دلالة. لا مبالغة في القول إنها تفترض أنّ الرجل مات قبلاً، تحديداً عام 1998 في أعقاب محاكمته وإدانته على كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» الذي صدر في طبعة أولى عام 1995 عن دار (La Vieille Taupe) التي تنشر أعمال المشككين في حصول إبادة نازية و«محرقة» لليهود في الحرب الثانية، ثم في طبعة ثانية منقحة عام 1996 على نفقة المؤلف الخاصة. فقد حرصت جريدة «لوموند» الموصوفة بالرصانة والواسعة الانتشار على استهلال تغطيتها بالقول إنّ موقعاً إلكترونياً لحركة يمينية متطرفة اسمها «المساواة والمصالحة» هو الذي بادر إلى إعلان نبأ وفاة غارودي. ووضعت الصحيفة وموقعها عنواناً للخبر يختزل مسار الرجل أيّما اختزال: «مات روجيه غارودي أحد رموز إنكار المحرقة». ويوحي هذا بأنّ الموت الثاني والفعلي للرجل هو من قبيل لزوم ما لا يلزم، ما دام ــ منذ إدانته ــ مرذولاً ومنبوذاً و«اختفى تماماً من المشهد الوطني» بعدما كان شخصاً «قابلاً للمعاشرة» بحسب عبارة الصحيفة. ما تسعى إلى تثبيته هذه العبارات المتأنقة هو صورة الرذل والنبذ، ما يجيز تذويب المسار المركّب كلّه وصلبه على خشبة خطأ يجري النفخ فيه لجعله معصية كبرى وخطيئة لا تحتمل النسبية. بالفعل، لم يعد في مقدور غارودي منذ عام 1996 أن ينشر نصوصه في دور معروفة. نشر على نفقته وفي دور غير معروفة نصوصاً يدور معظمها على جوانب محاكمته القضائية ومحاكمة الأب بيار الأخلاقية، وهو الشخصية الشعبية الأولى في فرنسا، بسبب تضامنه مع غارودي. هكذا، بسبب شجرة سيئة الغرس، تجري إدانة وتأثيم الغابة كلّها.
الغابة هذه لا تضم أكثر من أربعين كتاباً لغارودي فحسب، بل تضم أيضاً مسيرة الرجل الذي عبر القرن شاهداً حيّاً على توتراته وارتجاجاته ومشاركاً في صناعة تاريخه. غلب على معظم أعماله الطابع «الظرفي»، أي اندراج النصوص والمؤلفات في مناظرات ونقاشات تمليها مناسبات وأحداث راهنة معينة. وقد عبّر غارودي عن أسفه حيال بعضها، بما في ذلك كتابه أو أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه حول «النظرية المادية للمعرفة». إلا أنّ انخراطه في الحزب الشيوعي الفرنسي طوال أربعين عاماً، يبقى المحطة الكبرى في حياته التي وصفها بالرقصة في كتاب وضع مقدمته الكوريغراف والراقص المعروف الراحل موريس بيجار الذي اعتنق الإسلام كما فعل غارودي عام 1982، لكن من دون صخب. الرجل المولود عام 1913، أي عشية المذبحة العالمية الأولى، في مرسيليا المتوسطية جمع في شخصه حساسيات ثقافية مختلفة تعود إلى بيئته العائلية والبيئة الفكرية والسياسية اللاحقة. نشأ في أسرة عمالية وبحرية متواضعة لأب غير مؤمن وأم كاثوليكية، فيما كانت جدته لأمه كاثوليكية جداً. انضم إلى الشبيبة البروتستانتية في الرابعة عشرة قبل أن ينتسب إلى الحزب الشيوعي عام 1933، من دون أن يتخلى تماماً عن إيمانه المسيحي، ويحصل على شهادة التبريز في الفلسفة عام 1936.
شارك في الحرب الثانية في صفوف المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني وحكومة فيشي واعتقل ونقل إلى سجن في منطقة جلفا في الجزائر. ويبدو أنه خلال سجنه، شهد حادثاً كان له وقع عميق في نفسه. عندما أضرب السجناء وتظاهروا بتحريض نضالي من غارودي ورفاقه، أمر مسؤول السجن الجنود المسلمين بإطلاق النار، لكنّ هؤلاء رفضوا بدعوى أن قيمهم تمنعهم من إطلاق النار على أشخاص عزّل. عن هذه الحادثة، سيقول غارودي بعد عقود إنّ سلوك هؤلاء الجنود صادر عن منظومة قيم كاملة. وقد يكون الكتاب الذي نشره في الجزائر عام 1946 عن «المساهمة التاريخية للحضارة العربية» صدى فكرياً لشعور بالامتنان ولمقاربة موقتة لن يستأنفها غارودي إلا مع اقترابه ثم اعتناقه لفكرة معينة عن الإسلام. بعد تحرير فرنسا، نشط غارودي في النشر والإعلام وانتخب نائباً في أول مجلس تأسيسي ودخل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1945 ثم المكتب السياسي عام 1956 وبقي في هذا المنصب حتى طرده من الحزب في 1970 بتهمة «التحريفية» وانتقاد التجربة الاشتراكية السوفياتية من موقع يميني. في غضون هذه السنوات التي انتخب فيها نائباً عن الحزب الشيوعي وعضواً في مجلس الشيوخ ونال أوسمة تقدير على مشاركته في المقاومة والقتال ضد الاحتلال، بقي غارودي أحد المنظرين الرسميين للحزب وللفكرة الشيوعية نفسها. شرع بعد عودته من موسكو عام 1956 في العمل على نقد الستالينية ونزعها عن الحزب. وشاركه في هذا النقد، لكن من موقع مختلف، لوي ألتوسير الذي كان فيلسوف الحزب بامتياز. ذلك أنّ غارودي ظل مسكوناً بالمذهب الإنسانوي، وساعياً إلى مدّ الجسور بين الإيمان المسيحي والفكرة الشيوعية، فيما عرف ألتوسير بنقده اللاذع للنزعة الإنسانوية في المجال النظري.
لفهم الشخصيتين المذكورتين، من المفيد التوقف عند ملاحظة مهمة، من الناحية السوسيولوجية في الأقل، أبداها كبير المتخصصين الفرنسيين في عالم اليونان الإغريقي القديم وفلسفته وأساطيره واجتماعه السياسي إضافة إلى كونه أحد مثقفي الحزب الشيوعي الفرنسي وخلاياه الجامعية، قبل خروجه من الحزب هو الآخر لكن من دون ضغينة، ونعني جان بيار فرنان. رأى فرنان أنّ المثقفين الذين اجتذبتهم الشيوعية جاؤوا من تيارين أو تراثين اثنين لا يتطابقان تماماً. التيار الأول جاء من فكر الأنوار والعلمانية، وهذه حال فرنان بحسبه، فيما جاء التيار الثاني من الكاثوليكية أو البروتستانتية كغارودي وألتوسير. ولا يمنع هذا من أن تكون تقلبات غارودي بين الشيوعية والمسيحية والإسلام تعبيراً عن شخصية قلقة جداً، بمعنى أنها تزعم قطع الشك والحيرة العميقين بمسرحة اليقين وإعلاء نبرته ونزعته السجالية إلى حين. القلِق هو من يبقى حساساً حيال أفكار المنافسين والخصوم. وهذا ما كان عليه غارودي عندما كتب «واقعية بلا ضفاف» و«نحو نموذج فرنسي للاشتراكية» و«ماركسية القرن العشرين»، إذ كان يستشعر الحاجة إلى «أنسنة» الفكرة الشيوعية التي كانت تعرض جافة بلا روح.
لم يكن غارودي قديساً، لكنّه لا يستحق الرذل والأبلسة. لقد أخطأ في كتابه عن أساطير السياسة الإسرائيلية، لا لأنه أراد فضح الصهيونية وإعادة النظر في قانون غايسو ـــ فابيوس الأخرق والمسنّ عام 1990 الذي ينيط بالدولة بتّ أمور تخص المؤرخين، بل لأنه ـــ بدافع سجالي واستفزازي ـــ أقحم في عمله عناصر سهّلت على خصومه وعلى المحكمة إدانته بتهمة التحريض العنصري والخلط بين الصهيونية والطائفة اليهودية. كان يريد على الأرجح تصفية حساب يعود إلى عام 1982 عندما نشر مع رجلي دين مسيحيين إدانة للاجتياح الإسرائيلي وفظائعه في لبنان. الجهة التي ادعت عليه آنذاك بتهمة اللإسامية خسرت الدعوة واستئنافها ثلاث مرات. لكنّ خطأه لا يجيز إطلاقاً طرده من المشهد الفكري والروحي والوطني، وخصوصاً عندما يتولى عملية النبذ دهاقنة ومقاولون وكلاب حراسة للسياسة الإسرائيلية.