في العام الماضي، كنت ألتفت إلى كتاب غسان كنفاني «فارس فارس» الذي أعده للنشر وكتب له مقدمة مطولة الناقد اللبناني محمد دكروب. حين عدت الى ملاحظاتي التي دونتها، وجدتها كثيرة، لعل أهمها آراء غسان الشعرية. لغسان مقال بعنوان «شعراء متهمون بالغش والتزوير» أتى فيه على ما يصدر في العراق من دوريات أدبية، ومنها مجلة «الأديب المعاصر». كتب: «ورابعة ملاحظاتنا تتعلق بقضية الشعر، ففي المجلة ٧ قصائد، جميعها من الطراز الحديث، وإنني لراغب حقاً في مصارحة شجاعة هنا، وهي باختصار: إنني لا أفهم شيئاً من هذا الشعر» (ص ١٧٨). وملاحظته لا تقتصر على القصائد السبع التي أعجب بقسم منها، فهي تشمل أكثر الشعر الذي كان يُنشر في أيامه، ويعلن غسان: «إني لا أفهم هذا الهذيان، وقد آن الأوان لنتخلى عن خشيتنا من أن نتهم بالجهل، ونبدأ بتأسيس ناد يضم بين صفوفه جميع الذين لديهم الجرأة على الإقرار بأنهم عجزوا عن فهم واستيعاب هذا الشعر» (ص١٧٨).
طبعاً يذهب غسان الى ما هو أبعد من ذلك: «وسيكون على هذا النادي أن يلقي القبض في كل مكان على الشعراء هؤلاء، ويقدمهم الى المحاكمة بتهمة الغش والتزوير، مثل الذين كانوا يضحكون على أجدادنا بكتابة أحجية غير مفهومة، وكان أجدادنا يصابون بالذهول أمام تعقيد تلك الكتابة، ليس لأنهم فهموا، ولكن لأنهم يزدادون شعوراً بالجهل» (١٧٨). وأنا أقرأ «فارس .. فارس»، قلت: لقد التُفت الى غسان روائياً وقاصاً ومسرحياً ودارساً وكاتب مقالة، ولكن لم يلتفت إليه ناقداً، ناقد شعر وناقد قصة قصيرة وناقد رواية. هل تذكرت الشاعر محمود درويش وأنا أقرأ مقالات غسان؟
لغسان كنفاني مقال بعنوان «كفى، لا تطرطشونا بلعاب الحماس». وفي مقاربة لمجموعة قصصية بعنوان «لا تشتروا خبزاً، اشتروا ديناميت» للكاتب خليل فخر الد ين، لا ينكر غسان أن كاتب القصص لا يخلو من بريق الموهبة هنا وهناك، لكن ما أخفاه ــ أي بريق الموهبة ــ الى حد بعيد هو تلك الموجة العصبية من الوطنية الساذجة، المتحمسة على حساب البناء الفني، وعلى حساب الهيكل العظمي والعضلي والعصبي والجمالي لكل قصة، فـ «كتابة قصة ناجحة عمل وطني أيضاً، ولو فعل مكسيم غوركي مثلما فعل خليل فخر الدين لتأخرت الثورة البلشفية قرناً كاملاً على الأقل» (ص93). وأنا أقرأ ما سبق لغسان، تذكرت محمود درويش وفهمه، لاحقاً لشعر المقاومة، حين ألقى كلمة في حفل توقيع ديوانه «كزهر اللوز او أبعد» قال كلاماً لا يختلف في مضمونه عن كلام غسان السابق. إنّ كتابة قصيدة جميلة وناجحة فنياً هي عمل مقاومة.
وسأتذكر درويش ثانية وأنا أقرأ مقالة غسان «نادي المنتفعين باللغة العربية» (ص١٩٦). في هذه المقالة، يناقش كنفاني تعابير أدبية لنزار قباني (كان قد أتى على نزار والجواهري في مقالة «جواهر الجواهري وقبان القباني» وردت في كتابه «عن الشعر والجنس والثورة») منها: «إنني سافرت من القاموس وأعلنت عصياني على مفرداته» و«تحولت الكلمة الى فرس رفض سرجه وفارسه وانطلق في براري الشعر»... وسيناقش كنفاني مقولات نزار وسيطالبه في النهاية بالتالي: «لكن، يا سيدي يا نزار قباني: لماذا لا تظل تكتب شعراً وتعفينا من رأيك بهذا الشعر، ومن فلسفتك لذلك الشعر، وترجمتك وحواشيك وهوامشك؟». وسيسخر كنفاني من عبارات نزار وبعض مفاهيمه بكتابة عبارات على غرار عبارات نزار، ولغة على غرار لغة نزار. لماذا تذكرت محمود درويش؟ محمود يكتب شعراً جميلاً، لكنه أحياناً يكتب نثراً على غرار نثر نزار أيضاً، وربما أكون مخطئاً.
هل تذكرت شيخي اميل حبيبي أيضاً وأنا أقرأ «فارس.. فارس»؟ بالتأكيد، فغسان في مقالاته يبدو ساخراً جارحاً حاداً، ولا أدري أيهما أسبق في كتابة المقالة النقدية الساخرة. في كتابات غسان عن الكاتب اللبناني الساخر سالم الجسر (ص٨٦) تذكرتُ اميل وتلاعبه باللغة واشتقاقاته وتحويراته، فغسان كان له ــ في مقالاته لا في رواياته ـــ باع في الأمر. كل عام وغسان كنفاني بخير.
* كاتب فلسطيني