ينهض كتاب وجيه كوثراني «تاريخ التأريخ ـــ اتجاهات، مدارس، مناهج» (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) على ثلاثة أقسام: نشأة التأريخ العربي وتطوره، المدارس التاريخية الحديثة والراهنة في الغرب، مراجعات في الممارسة التأريخية العربية المعاصرة. صدر الكتاب عام 2001 بعنوان «التأريخ ومدارسه في الغرب وعند العرب». لكن المؤرخ اللبناني أضاف إلى الطبعة الجديدة جزءاً ثالثاً ضمّ قراءات نقدية ومنهجية ومفاهيمية تعود إلى مؤرخين وباحثين عرب، مثل قسطنطين زريق، عبد العزيز الدوري، رضوان السيد، ناصيف نصار، محمد عابد الجابري، وجان شرف. يستهل صاحب «الفقيه والسلطان» بحثه مع إرهاصات التدوين التاريخي عند العرب، فيرسم خريطة زمنية لظهوره والمراحل التي مرّ بها. لم تكن نشأة التاريخ عند العرب بعيدة عن رافدين أساسيين: تاريخ القبائل والأنساب، وتدوين السيرة النبوية. مع ابن خلدون، بدأ التاريخ العربي يستقلّ عن العلوم النقلية/ الدينية. يطرح صاحب «بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه» سؤالين مهمين: «هل من مدرسة تاريخية خلدونية؟ وهل كانت منهجية ابن خلدون مقطوعة عن العلوم السابقة؟»، ويصل إلى خلاصتين: أُولاهما أن الإنتاج الخلدوني تواصلَ مع العلوم العربية ـــ الإسلامية ولا تنطبق عليه فكرة الانقطاع أو الاستثناء، وثانيتهما استمرارية المنهجية الخلدونية لدى مؤرخي العصر المملوكي واستخدام المؤرخين وعلماء الاجتماع للمصطلحات الخلدونية، سواء في «نشوء الدول وزوالها» أو في «صور العصبيات وعلاقتها بالدين والسياسة».

قبل أن ينتقل كوثراني إلى علم التاريخ في الغرب، يُطلعنا على المنهج التاريخي العربي المعاصر، وقد قسّمه إلى الاتجاهات الآتية: التاريخانية المحافظة، والتاريخانية الثورية/ الماركسية، والمنهج التاريخي الإسلامي أو ما يطلق عليه «تاريخانية توليفية».
لكنّ القسم الأخير من الكتاب يبدو الأكثر جاذبية؛ لأنه يعاين الاتجاهات التاريخية المعاصرة والحديثة؛ إذ يختار كوثراني مجموعة مؤرخين وباحثين عرب ويقسم دراسته إلى مفصلين: بداية التاريخ الأكاديمي العربي، وعينات من التاريخ المفهومي. في قراءاته لأبرز خلاصات الباحثين العرب، يعتمد على المعيار النقدي ولا يلجأ إلى الخطاب التقريظي. مثلاً، حين يجادل محمد عابد الجابري في آرائه حول الديموقراطية والشورى، يسأل: «هل التفافه على مصطلح العلمانية يحل إشكال الثنائية بين الإسلام والعلمانية؟». يعرض الكاتب لأهم المبررات التي يسوقها صاحب المشروع الفكري في نقد العقل العربي، ويناقشه في ثلاث قضايا: تسرّع الجابري في صوغ مصطلح العلمانية وتعريفه وتحديده على مستوى أصل المفاهيم، وقوله إنّ «الطائفية الدينية» هي التي تفسّر طرحها في أماكن حيث التعدد الديني، وتأكيده أن فكرة المؤسسة الدينية والوساطة غريبة عن الإسلام. النماذج التي اختارها كوثراني تعكس تعدد المشاريع التاريخية المعاصرة وغناها، وتبيّن حجم انشغالات المؤرخين العرب في مسائل متداخلة، كالعلاقة بين الدين والدولة التي أولاها رضوان السيد اهتماماً، وتصوّرات الأمة المعاصرة التي درسها ناصيف نصار من منظور الفلسفة السياسية والتاريخ. باختصار، شكّل عمل كوثراني مرجعاً علمياً لفهم تطور التاريخ ومدارسه ومناهجه عند العرب والغرب.