بغداد | جميل أن تشهد بغداد توافد الفنانين العرب إليها، وإحياء المغنية اللبنانية مادلين مطر حفلة في الهواء الطلق. غير أنّ احتفال نقابة الصحافيين بعيد الصحافة العراقية الـ143 بهذه الطريقة «الباذخة» أثار علامات استفهام كثيرة، خصوصاً أمام التجاوزات الكثيرة التي تواجه الإعلاميين في البلاد.
الاحتفال الذي أقامته «نقابة الصحافيين العراقيين» أخيراً في «فندق الرشيد» ضمن المنطقة الخضراء المحصنة (مقرّ الدولة)، وُصف بـ«الباذخ» لجهة ميزانيته التي بلغت 5 ملايين دولار.
قبل هذا، من المهم أن نعرض الأجواء التي سبقت هذا «الكرنفال». قبل أسبوعين، أدان «مرصد الحريات الصحافية» قيام عناصر من الاستخبارات في بابل بالتحقيق مع مراسلة وكالة «أنباء بغداد الدولية» إلتفات حسن واحتجازها ثلاث ساعات من دون مبررات. وفي اليوم نفسه، تعرّض المذيع المخضرم نهاد نجيب لاعتداء عقب تسلّمه راتبه التقاعدي من أحد المصارف في كركوك. وكان رئيس «الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحافيين» إبراهيم السراجي قد رأى أنّ «حادثة الاعتداء على نجيب بمثابة اعتداء صارخ على حرية الصحافة والتعبير». كذلك شُغل الرأي العام أخيراً بقرار «هيئة الاتصالات والإعلام» بإغلاق 44 وسيلة إعلامية، بينها «محطات وإذاعات بارزة محلياً مثل قناتي «البغدادية» و«الشرقية»، وأخرى معروفة على نطاق دولي مثل «بي. بي. سي» وراديو «مونت كارلو» وراديو «سوا» وإذاعة «صوت أميركا»». وبفعل ما أحدثه القرار من ضجة، تراجعت الهيئة عنه. ويفترض بالأخيرة أن تكون وبقية المؤسسات المشابهة لها (مفوضية الانتخابات، هيئة النزاهة، شبكة الإعلام)، مستقلة وفق ما ينصَّ عليه الدستور، إلا أنّ الحكومة تسيطر عليها وتعيّن من يديرها وتحدّد توجهاتها.
ويكفينا من فضائح ما حصل قبل أشهر مع فريق «ناشونال جيوغرافيك» المكلّف بتصوير فيلم وثائقي عن أهوار العراق. لكنّه تعرّض لاعتقال مرتين في مدينة العمارة، ما دفع الصحافية كارولين دريك إلى إلغاء مهمة تصوير الفيلم بين الناصرية والعمارة ومغادرة البلاد. وأخيراً تعرّض قسم العلاقات في نقابة الصحافيين للاحتراق قبل يومين فقط من الاحتفال، حتى إنّ نقيب الصحافيين مؤيّد اللامي تهجّم على فضائية «الديار» التي كانت تنوي تغطية الحدث، لكنّه منعها منذ ذلك. وما من داع لسرد ما يورده بعضهم بشأن التوقيت ومكان تخزين الهدايا المخصصة من الحكومة للصحافيين (أجهزة «آي فون» و«آي باد»)، قالت النقابة إنّها ستوزعها لاحقاً على الزملاء وفق نظام القرعة.
عقب ذلك كله، نظمت نقابة الصحافيين العراقيين احتفالها الذي لم يكن ليتعرّض لكل هذا الهجوم لو كانت النقابة تدافع حقاً عن صحافييها ضد الانتهاكات الحاصلة بحقّهم. لقد فضّلت الحصول على امتيازات شخصية من الحكومة لأعضاء مجلس إدارتها مقابل دفن رأسها في الرمال والصمت عن محاولات مصادرة الحريات. وأغرب ما في احتفال النقابة كان تصريح رئيس الوزراء نوري المالكي بأنّ «العراق اليوم يتمتع بحريات عامة وفي مقدمتها حرية الإعلام والصحافة»، متناسياً الإعلاميين الذين زجّوا في المعتقلات في التظاهرات المطلبية التي شهدتها المدن العراقية، بينما شهد متنزه الزوراء، إلى جانب الكرخ من بغداد، إحياء مادلين مطر حفلةً حضرها عدد من الساسة والصحافيين. لكنّ الوسط الإعلامي اعتبر الفعالية ككل «تلميعاً لوجه الحكومة ومجرد إغداق لأموال طائلة على حساب العراقيين الملتاعين من أزمة غياب الخدمات وانقطاع الكهرباء». مجيء الفنانين العرب وبعض المغتربين من فناني العراق إلى بغداد حدث حظي بترحيب كبير، لكن ما علاقة أحمد ماهر، وشيرين، وسامح السريطي، ومي كساب، وآخرين بجوهر احتفال وطني للصحافة العراقية؟ ألم يكن الأجدى مثلاً إقامة ندوات تستضيف إعلاميين عرب بارزين للحديث عن مسؤوليات الاعلام العربي بعد الثورات، أو مناقشة الحريات المنتهكة في أكثر من بلد عربي؟ لكنّ ذلك يصبح مبرراً حين نعلم أنّ النقابة يقف على رأسها صحافي مثل مؤيد اللامي الذي اشتهر بممالأته لأي سلطة. هو الذي كتب مرة في صحيفة «ميسان» (عام 2002) أنّ «عراقنا أصبح اليوم إشراقة المستقبل بصدام حسين الذي يحتفل أبناؤه وماؤه ونخيله بعيد ميلاده الميمون». خمسة ملايين دولار، ميزانية حكومية خُصصت لتنفقها نقابة الصحافيين على دعوة ضيوفها مع هداياهم، لينتهي الاحتفال بتوزيع اللامي سبائك ذهبية (على شكل خارطة العراق) على رئيس «الاتحاد العام للصحافيين العرب» إبراهيم نافع والوفود العربية. «أما عجايب» أغنية مادلين مطر جاءت في محلّها هذه المرة، تندّر بها بعض الصحافيين على هذا الزمن المفتقر إلى المعايير، سلطة تفتخر بعدائها للبعث، فتستخدم أدواته نفسها، وتجابه مواطنيها بعقد «الحرام والتحريم»، ومنها اللافتات التي يحذر فيها محافظ بغداد صلاح عبد الرزاق أهالي العاصمة من تبعات تناول الخمور، بينما هو وباقي الطاقم المسؤول اليوم يتسابقون من أجل التقاط الصور التذكارية مع الفنانات!