القاهرة | في فيلم «بياعة الجرايد» (1963) لحسن الإمام، يشدو الثلاثي النسائي ماجدة، ونعيمة عاكف، وسناء مظهر بأغنية يحاولن بها جذب انتباه جارهن رشدي أباظة. واتساقاً مع عنوان الفيلم وموضوعه، كنّ ــ بين كل مقطع وآخر ــ يهتفن بأشهر نداء لباعة الصحف المصريين في القرن العشرين وهو «أهرام، أخبار، جمهورية». الصحف الثلاث العملاقة، تأسّست أولاها ـــ «الأهرام» ـــ في نهايات القرن التاسع عشر، والثانية (الأخبار) في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، بينما تأسست الثالثة على أيدي ضباط «ثورة يوليو».
لكنّ مصير الثلاث لم يختلف كثيراً. أمّمت الدولة الناصرية «الأهرام» و«الأخبار»، لتنضما إلى الجمهورية وقائمة طويلة من الصحف والمجلات التي أصبحت تشكّل ما يعرف بـ«الصحافة القومية» التي تقبع اليوم على بعد خطوات قليلة من تغيير «هويتها» من النقيض إلى النقيض، ويصعب أن يتذكر الناس أغنية الفاتنات الثلاث في الفيلم المذكور، في ظل الهيمنة الإسلامية على المجال السياسي المصري، ومن ثم على «الصحافة القومية» التي تخوض الآن «معركة» اختيار رؤساء تحريرها ومسؤوليها الجدد، على يد مجلس الشورى المصري الذي يهيمن عليه الإخوان والسلفيون.
وقفات احتجاجية متعددة ومتنافسة شهدتها السلالم الشهيرة لـ«نقابة الصحافيين المصرية»، تؤيد أو تحتج على المعايير الجديدة لاختيار مسؤولي الصحافة القومية، وهي صحافة لا يوجد لها مثيل في النمط الغريب لملكيتها وإدارتها. هي حكومية، لكنّ الحكومة لا تمتلكها، وهي «عامة» لكنها غير مستقلة، هي مؤسسات شبه حكومية وشبه عامة، تدفع الضرائب أو يفترض أن تدفعها، فهي مثقلة بالديون والخسائر، تضم جيوشاً من الصحافيين والموظفين والعمال يصل مجموعهم إلى 31 ألفاً، ويهيمن صحافيوها على عضوية نقابة الصحافيين التي تتبادل موقع النقيب فيها مؤسّستا «الأخبار» و«الأهرام». والخلاصة أنّها مؤسسات مستقلة نظرياً لكنها خضعت دائماً للسيطرة غير المباشرة من الدولة بوسيلة أو بأخرى. وآخر تلك الوسائل تعيين مسؤوليها الذي يحصل منذ ثلاثين عاماً من خلال مجلس الشورى. وكان هذا التعيين نفسه نظرياً بدوره، لأنّ الشورى ــ كمجلس الشعب ــ كان خاضعاً لسيطرة الحزب الوطني الحاكم سابقاً، ما يعني أنّ التعيين كان يصدر عملياً من بلاط رئيس الجمهورية. اليوم، استمرت الحال نفسها، لكنّ الحزب الوطني لم يعد موجوداً. حلّ محله «حزب الحرية والعدالة»، الجناح السياسي للإخوان المسلمين الذي سوف يقرر ــ بسبب أغلبيته البرلمانية ــ الأسماء التي ستتولى إدارة الصحف القومية في الفترة المقبلة. ولا يغيّر من تلك الحقيقة أنّ لجنة تألفت من المجلس ووضعت قائمة معايير غير مسبوقة لاختيار رؤساء التحرير، من أبرزها ألا يزيد عمره على 60 سنة، وأن يكون قد أمضى السنوات العشر الأخيرة متصلة بالعمل في المؤسسة نفسها، فضلاً عن معايير سياسية كأن «لا يكون ممن روّجوا للتطبيع مع الكيان الصهيوني». كذلك تتطلّب المعايير ممن يتقدم لشغل منصب رئيس التحرير أن «يقدم أرشيفاً صحافياً (...) وسيرة ذاتية يقدم فيها تعريفاً بخبراته والمهام التي تولاها خلال سنوات خدمته». هذه النقطة تحديداً اعتبرها بعض الصحافيين «مهينة» و«تهدر كرامة الصحافيين والمهنة»، فأقاموا دعاوى قضائية لوقف إجراءات لجنة مجلس الشورى، مطالبين بأن يكون اختيار قيادات المؤسسات الصحافية عن طريق جمعياتها العمومية.
لكن بعيداً عن الوقفات الاحتجاجية والدعاوى القضائية، تقدم بالفعل أكثر من 80 صحافياً إلى لجنة الشورى للفوز بالمناصب القيادية في المؤسسات. ورغم أنّ مجلس نقابة الصحافيين رفض بالإجماع إجراءات مجلس الشورى، رفض النقيب ممدوح الولي الذي فاز في الانتخابات بدعم من الإخوان، قرارات مجلس النقابة، واقتصر في مطالباته للشورى على تعديل لجنة اختيار رؤساء التحرير، لتضم صحافيين أكثر، إذ لا تضم اللجنة سوى أربعة صحافيين من بين 14 عضواً في اللجنة.
يمكن القول باختصار إنّ تلك الأزمة التي تبدو إدارية في الظاهر، هي سياسية في الداخل، يتبادل مجلس الشورى والصحافيون الاتهامات. يقول البرلمانيون إنّ «فلول النظام البائد من الصحافيين يقاومون التغيير». ويقول الصحافيون إنّ «الإسلاميين يريدون اختطاف الصحافة القومية». والواقع أنّ كلا الاتهامين يحمل جزءاً من الحقيقة وجزءاً من الدعاية السياسية، وتبقى المشكلة الأساسية قانونية/ إدارية. مهما كانت الهوية السياسية الغالبة على القيادات الجديدة، فإن القوانين المنظمة للمؤسسات لا تسمح لها باستقلال حقيقي يسمح لها بالتخلص من ديونها، ومن ثم منافسة جادة ــ حقيقية غير مدعومة حكومياً ــ أمام صحافة خاصة آخذة في الصعود. ومن الصعب تصوّر أنّ هذا الجسم البيروقراطي الهائل (ثماني مؤسسات قومية تصدر 55 مطبوعة) قادر على الاستمرار من دون رعاية مباشرة من الدولة على نمط النظام السابق الذي كان يتجاوز ديون المؤسسات (بل يدعمها) من أجل ضمان دورها السياسي في خدمته. أمام النظام الجديد إذن أن يحرر بعض تلك المؤسسات بالخصخصة، أو أن يحوّلها ــ ويحوّل نفسه معها ــ إلى نسخة من النظام القديم، بمرجعية إسلامية.