القاهرة | في الإنتاج الأدبي الأخير لمحمد البساطي، يمكن التوقف أمام مسألتين: الأولى هي الأثر العميق الذي تركته سنوات نشأته في الريف على بحيرة المنزلة (دلتا مصر)، وتجلّى في روايته الفريدة «صخب البحيرة» (1994) على وجه التحديد. أما المسألة الثانية، فتتعلق بالخبرات الشخصية التي تكونت لديه من سنوات عمله مفتشاً مالياً في مصلحة السجون المصرية. وبانت هذه الخبرة في روايته المتميزة «الخالدية» التي تقوم على تصور جريمة افتراضية، إذ يقوم مفتش مالي بخلق قرية من العدم يؤسس لها مخفراً للشرطة ومؤسسات يستنزف عبرها أموال الدولة.
وفي المسافة بين المسألتين، يمكن فهم غزارة إنتاج الكاتب الراحل في السنوات الأخيرة، حتى بدا كأنه يعتق موهبته ككاتب أصيل، استحق عن جدارة الوصف الذي يسبق أعماله باعتباره «شاعر القصة القصيرة».
المتأمل في أعمال البساطي الأخيرة («جوع»، «أسوار»، «محابيس»، «غرف للإيجار»، «سريرهما أخضر»، «نوافذ صغيرة»، «فراشات صغيرة») يبدو له هذا الولع باللعب على المفارقة التي تفرزها واقعية العالم لتستحيل إلى «فانتازيا خالصة». ابتكر صاحب «فردوس» طريقة فريدة في ملامسة الواقع، تقوم على تقطيره وتأطيره في الوقت عينه. تستبعد منه ما علق من ترهلات وتذهب إلى كتابة رشيقة خالية من زوائد الأيديولوجيا من دون أن تغيب عنها الانحيازات الإنسانية في معناها المطلق. سمة تستطيع أن تفسر حدود التماس بين عالم «فردوس» المستلهم من الريف المصري ورواية «مديح الخالة» لماريو بارغاس يوسا؛ لأنّ مصدر الروايتين كامن في أسطورة «فيدرا» اليونانية. وبالقياس نفسه، يمكن إيجاد عناصر صلة بين «جوع» البساطي و«جوع» النرويجي كنوت هامسون. العملان ينهضان على مأساة واحدة. إلا أنّ البساطي لم يكن من الكتّاب المولعين بالميلودراما التي كان يستخف بها. كان يفضل دوماً أن يترك قارئه في حالة تأهب للبكاء.
كذلك، آثر التمسك بالسمات الفنية لعالمه الراسخ، حيث الغرام بكتابة المسكوت عنه في الريف، والتقاط هوامشه المهملة، إلى جانب تأمل دقيق لعوالم السجن وما تطرحه من تساؤلات عن معنى الحرية وقيمتها وما تفعله الأسوار في الأرواح، وقد تتسرب أحوال المدينة وقضاياها بخجل. فعل ذلك من خلال نمطين رئيسيين من أنماط العيش: الأول هو نمط حياة المهمشين الذين يسكنون غرفاً ضيقة تتيح لهم التلصص والتقصي وراء روائح الرغبة المكبوتة. والثاني رصد نمط حياة مثقفي الطبقة الوسطى من كتاب وفنانين.
واللافت أنّ البساطي الذي عاش في القاهرة نحو أربعين عاماً، لم يكتب عنها إلا نادراً، مثل روايته «ليال أخرى». رغم عذوبتها، إلا أنّه لم يفضّل العودة إلى هذا العالم مرة أخرى؛ لأنّه لم يكن يكتب إلا عما يعرفه ويرده دائماً إلى سنوات الخطوة الأولى كما كان يقول. لذا، فضل البقاء مخلصاً لعالمه الذي ظل يعيد تشييد أركانه بصيغة سماها صبري حافظ «الترصيع السردي» حيث لا تؤدي عملية إعادة بناء العالم الفني إلى تكراره، بل إلى تفتيت عناصره إلى وحدات صغرى في لعبة «تكثيف التكثيف» أو تصفية الأحاسيس وتقديمها مقطرة بصفاء اللؤلؤء.
وفي هذا المسعى، جدّد الكاتب شغفه باقتناص اللحظات الهاربة، العصية على الإمساك. وقف منصتاً بجلال إلى حكايات النساء وهمسهن العابر وحتى أصواتهن التي تنطق بالرغبة، فتتحول إلى صيحات أرواح مثقلة بالهموم بفضل لغة طيّعة شفافة، تشير ولا تفضح، تقول ولا تجرح. ومن هنا، اتسمت بشاعرية لافتة. الكاتب لم ينظر إلى أدواته التقنية بمعزل عن ولعه الشخصي بالموسيقى الكلاسيكية. تعامل مع الكتابة بالآلية ذاتها التي يتعامل بها المايسترو مع مقطوعة موسيقية يلعبها. هاجسه الرئيسي ارتبط بقدرته على امتلاك الإيقاع، والسيطرة على الحركة الداخلية للنص. وللسيطرة على عالمه الفني ورسم حدوده، ابتكر البساطي لغة يومية فريدة في قدرتها التعبيرية. لم تكن لغة واحدة، بل نتاج أكثر من طبقة لغوية داخل النص الواحد. ظلّ حتى أيامه الأخيرة يكتب والقاموس إلى جواره بحثاً عن لغة تخصّه، تحمل معه هموم أبطاله وتعبّر عنهم. لذلك تمتلئ كتاباته بعامية مصرية لا تخلو من فصاحة. وقد تعلّم الراحل هذا الدرس من أستاذه ومكتشفه الكاتب الراحل عبد الفتاح الجمل الذي قدمه للقراء أوائل الستينيات. ومن خبرته الوظيفية، نجح في نحت لغة تتسم بالحياد من دون أن تفقد التصاقها بالواقع. أما الشاعرية فكانت ابنة تجربته القصيرة مع كتابة الشعر الذي توقف عن كتابته عندما فاز بجائزة «نادي القصة» التي تسلمها من الرئيس عبد الناصر، نتيجة لتقرير من لجنة تحكيم رأسها طه حسين. من السمات البارزة في أعمال البساطي الأخيرة انحيازه المطلق إلى المرأة عن اقتناع ترسخ لديه بأنّ المرأة العربية تعرّضت لظلم تاريخي، زادت من تأثيره الردة الأصولية التي شهدتها المنطقة. لذلك، كانت رواياته تقول في خطابها العام إنّ هناك امرأة مختلفة تقاوم على طريقتها. وهي في هذه المقاومة، لا تستند إلى خطاب نسوي يدّعي التقدمية، بل على ميراث من الحيلة والعطاء‏. المرأة الريفية التي أدمن الكتابة عنها كانت حاملة الحكاية التي تستطيع أن تمارس سطوتها بدلال أنثوي لم يغب عن كتاباته حتى الرمق الأخير.