ناي البرغوثي (1996) فتاة فلسطينية بعمر الورد. مؤلفة موسيقية، عازفة فلوت ومغنية تهوى الطرب الأصيل الشعبي والتقليدي. قدّمت حفلات في فلسطين وخارجها، وها هي تحلّ ضيفة على بيروت للمرة الأولى بدعوة من جمعيَّتَيْ «شمس» و«عرب»، لتقدِّم يوم الجمعة أمسية بعنوان «مُنيَتي» في «قاعة بيار أبو خاطر»، ترافقها مجموعة من الموسيقيين بإشراف شربل روحانا (عود). لناي حضور جميل. هادئة، تتمتع بشخصية واثقة، يلفحها فجأة ذاك الخجل الأنثوي الطفيف الذي بات نادراً.
بشكل عام، احتفت الصحافة بناي بطريقة مبالغ فيها غالباً. نحن أيضاً نرحّب بها، نحضنها برموش العين، ونثني على مواهبها، لكن لأنّنا آمنّا بفنّها وأعجبنا بمقاومتها الموجة التجارية الجارفة، فلا بدّ من التعامل بشفافية معها؛ فالفنان المبتدئ يؤذيه الانتقاد اللاذع، لكن ما يؤذيه أكثر هو المديح الذي يغضّ الطرْف عن نقاط ضعفه، فيلهيه عن إدراكها باكراً، ما يؤدي إلى تكريسها. درست ناي آلة الفلوت. أتقنتها وباتت تحفظ قواعدها مثلما تحفظ اسمها. ثم حازت الجائزة الأولى للعزف مرّتيْن في مسابقة فلسطين الوطنية للموسيقى. غير أنها لم تمتلك أسرار العزف الدفينة بعد؛ لأنّ ذلك لا يُدرَّس بل يُكتسب بتراكم الخبرة. هذا آتٍ لا محالة. إنها مسألة وقت فقط. تزور ناي بيروت مغنيةً وعازفة، لكن العنصر الأهم في موهبتها هو التأليف. بعكس ما يُتوقَّع من فتاة في عمرها، فتجربة ناي في التأليف أمتن بكثير من عزفها وغنائها. وهنا بيت القصيد. هذا نادر جداً، وعلى ناي التركيز أكثر على وضع أعمالٍ خاصة (مقطوعات موسيقية). القليل الذي وصلنا بتوقيعها يكشف عن مؤلفة واعدة، ولو لم تقدّم المذهل بعد. يمكن الرجوع، مثلاً، إلى مقطوعة Zig Zag Jazz (مقطوعة أقرب إلى الصول والبلوز) التي تتخللها لحظات ضعيفة (في الشق المكتوب والمساحة المرتجلة)، لكن بالنسبة إلى صغر سنّ مؤلفتها، يمكن اعتبارها مقبولة جداً، كما يمكن ناي مراجعتها بعد اكتساب الخبرة و«شدْشدَتها» (وهذا ليس عيباً، بل لجأ إليه تاريخياً مَن نعدّهم اليوم عباقرة). ويبدو أنّ لناي مقطوعات موسيقية للفلوت، تُدرّس في المعهد الدولي للموسيقى الأيبيرية في فالنسيا (إسبانيا). وهذا دليل إضافي على أن لديها ما تقوله في التأليف، وإهمال هذا الجانب لمصلحة العزف أو الغناء ليس خياراً صائباً، ولو أنّ ذلك قد لا يحقق لها شهرة كبيرة أو سريعة، بعكس التركيز على الغناء وبعده العزف. ولعلّ العنصر المحيِّر عند ناي هو الذي نواجهه في حفلتها المرتقبة، أي غناؤها الذي يغمره إحساس عالٍ لكنه يقع في مطبّات قاتلة، وثانياً صوتها الذي يتمتع بشيء جميل على مستوى الخامة، لكنه يتحوَّل أحياناً إلى نبرة أقل وهجاً، ربما لأنه غير مكتمل بعد. الصبية التي تبناها خالد جبران، وهو موسيقي مخضرم وخبرته كبيرة، تجنح أحياناً بشكل غير مقبول (ونحن لا نتكلّم على التطريب والتفريد). مثلاً، في أداءٍ (مسجَّل وليس حياً!) لأغنية «زهرة المدائن»، تحيد ناي عن اللحن في أكثر من مكان، ويصل ذلك حدّ النفور (عند «عيوننا إليك ترحل كل يوم»)، فضلاً عن تعديل في النص لا تبرّره أي ضرورة («لأجلك يا بهية المساجد» بدلاً من «بهية المساكن»). طبعاً، نحن لا نقارنها بفيروز، لكن للتفاوت بين أداء الأخيرة لأيٍّ من أغانيها وأداء الآخرين للعناوين ذاتها حدود. مقابل ذلك، تبرع الفتاة الفلسطينية في الكثير من الكلاسيكيات، وخصوصاً تلك الطربية المصرية أو التراثية الفلسطينية، مع العلم بأن من الواضح علاقتها البرعمية بأرباع الصوت؛ إذ تبدو أنها في مرحلة انتقالية بين أساسها الأكاديمي الغربي (سبق تلقيها مبادئ الموسيقى الشرقية) من جهة، ومسيرتها المهنية الشرقية الأصيلة من جهة أخرى. بالعودة إلى «مُنيَتي»، يتألف برنامج أمسية ناي البرغوثي من روائع عربية طربية تولى توزيعها الموسيقي خالد جبران («افرح يا قلبي»، «إن كنت أسامح»، «برضاك يا خالقي»، «يمّا مويل الهوى»، «منيتي عزّ اصطباري»، «كادني الهوى»...)، بالإضافة إلى «القدس العتيقة» و«راجعين يا هوى» من ريبرتوار فيروز (لم توفَّق في أدائهما في تسجيل حيّ توافر لنا). كذلك تستهل الأمسية بعزف منفرد على الفلوت لمقطوعة من تأليف ناي بعنوان «قانا» مهداة إلى مَن لن تصله من أطفال هذه القرية الجنوبية. وتتخلل الأمسية تقاسيم لآلات التخت الشرقي المرافق. أما عنوان الأمسية فيدلّ على أمنية ناي بالرجوع إلى هذا الريبرتوار الطربي الجميل، ونشر هذه الروائع بين أبناء جيلها الذين تشغلهم اهتمامات فنية أخرى. ناي البرغوثي فنانة جديرة بالاهتمام وبالمتابعة. وكل ما جاء من نقدٍ في السياق يجب ألا يثنيها عن المثابرة والطموح لبلوغ الأفضل.

«منيتي» لناي البرغوثي: 9:00 مساء الجمعة 20 تموز (يوليو) ـــ «قاعة بيار أبو خاطر» (جامعة القديس يوسف ـــ طريق الشام) ــ للاستعلام: 03/035298



مقطوعة لـ«جنين»

حازت ناي البرغوثي الجائزة الأولى للعزف لسنتين متتاليتين في «مسابقة فلسطين الوطنية للموسيقى» لعام 2006. وفي رصيدها اليوم ستّ مقطوعات من تأليفها، من بينها واحدة تحمل عنوان «جنين» كتبتها خلال اجتياح المخيم عام 2002 (الأخبار 6/8/2011)