لولا أن والديه حدّدا مكان ولادته، لسلّم المايسترو هاروت فازليان بأنه ولد في كواليس المسرح. من البديهي أن يذهب ابن المخرج برج فازليان والفنانة التشكيلية سيرفارت كريكوريان إلى هذا الاعتقاد، وهو لا يتذكر من طفولته الأولى غير المسرح والفن اللذين كانا يشكلان هاجساً لا حدود له لدى الوالدين. بين أبناء الرحابنة عاصي ومنصور وإلياس، ترعرع هاروت، وعايش معهم المسرح وما يدور في كواليسه. «منذ ذاك الحين، ارتحت للمسرح ورسمت عليه مستقبلي المهني والاحترافي»، يقول لنا أثناء لقائنا به في إحدى قاعات «المعهد الوطني العالي للموسيقى ـــ الكونسرفتوار» في بيروت.

إلى جانب إتقان الوالدة التمثيل والرسم التشكيلي، كانت تعزف على آلة البيانو، وكذلك خالته برجويت، أما جدّه لوالدته فكان مغنياً. هذا الجوّ كان كافياً للمايسترو لتتشكل مداميكه الموسيقية الأولى التي عززها في مسرح الرحابنة حيث عمل الوالد مخرجاً لمعظم أعمالهم. كانت الموسيقى تصدح في رأسه طوال الوقت: «ليس غريباً عليّ، أنا الذي ترعرعت في هذا الجو المفعم بالفن والغناء والموسيقى والمسرح، أن أُغرم بالموسيقى. كانت آلتي الأولى «طنجرة» أضرب عليها بالعصي لتعطيني أصواتاً تشبه أصوات آلة الدرامز... كما لا تزال الألوان حتى اليوم تطغى على مخيلتي، جراء رسوم الوالدة التي كانت تملأ جدران البيت ولما تزل إلى الآن».
أرسل الوالدان ابنهما إلى «الكونسرفتوار» عندما كان في السابعة من عمره. كانت العائلة تسكن في منطقة الظريف البيروتية، وكان على الطفل أن يأتي سيراً على الأقدام من هناك إلى مكان المعهد في زقاق البلاط، ليتعلم العزف على آلة الكمان إلى جانب تعلمه العزف على البيانو في البيت. لكن الحرب الأهلية التي ألقت بثقلها على لبنان عام 1975، دفعت العائلة إلى الهجرة في العام التالي إلى مونتريال في كندا، بحثاً عن الأمان. «فجأة وجدت نفسي في بلد يختلف كلياً عن لبنان! لكنني تعلمت هناك أشياء في الفن غيّرت مجرى حياتي... صرت أستمع إلى أنماط أخرى من الموسيقى، مثل الروك والموسيقى الشعبية المعروفة هناك. هذا الأمر جعلني أنحو باتجاه الغيتار لأجاري الأصدقاء الجدد الذين شكّلتُ معهم فرقة موسيقية راحت تجوب كندا والولايات المتحدة الأميركية لتقديم ست حفلات كل أسبوع. صرت أصعد إلى المسرح كل ليلة لأنني بتّ أشعر بأنّ راحتي تكمن على الخشبة».
بعدما أتمّ هاروت دراسته الثانوية في كندا، قرّر برج فازليان أن يعلّم ابنه الموسيقى «الصحيحة» و«الأصلية»، فاتصل بأصدقائه في يريفان في أرمينيا التي كانت في ذلك الوقت (1983) تابعة للاتحاد السوفياتي. «أذكر أنني عدت إلى البيت ليقول لي أبي: «لديك فيزا إلى أرمينيا، اذهب إلى هناك وجرب حظك مع الموسيقى مدة ستة أشهر، وإن لم يعجبك الأمر، عد ولن تخسر شيئاً»». في أرمينيا، كانت الحياة مختلفة عما هي في لبنان وفي كندا. كان على مايسترو المستقبل أن يتأقلم مع الوضع الجديد. شعر هناك بالجدية، وبأن الذين يتعلم الموسيقى على أيديهم «أذكى بكثير ممن هم في كندا، ويعشقون المطالعة». هكذا، صار يفعل مثلهم، بعدما تأثر بأجوائهم «الجدية والملتزمة». بدلاً من الأشهر الستة التي منحها إياها والده، قضى هاروت سبع سنوات في أرمينيا، متنقلاً بين الأوبرا والمسرح والباليه والمطالعة: «من البيت إلى المعهد وبالعكس... في سبع سنوات، تعلمت ما قد يتعلمه الآخرون في 11 سنة. لم أرَ شيئاً من أرمينيا، بل أغلقت الباب على نفسي وقررت تعلم الموسيقى حتى النهاية. معلمتي آرغانتينا التي كانت تعلمني القيادة (قائد كورال) كانت ترى ما يدور في داخلي، لذلك اهتمت بي كثيراً وشجعتني وأرشدتني». في نهاية دراسته (1990)، حصل هاروت فازليان على إجازة وماجستير مع مرتبة الشرف في قيادة الأوركسترا الأوبراليّة، وفي قيادة السمفونيّة الهارمونية القديمة.
لم يجد المايسترو مسرحاً لفنه في كندا، فصار يعلم في «الكونسرفتوار» في مونتريـال، وفي مدن أخرى. منذ غادر لبنان، لم يزر بلده، وكان قد نسي اللغة العربية حينما عاد إليه في عام 1997. لم يعرف كيف يخاطب بائع الدكان وبأي لغة! أما لماذا عاد؟ فقد شاءت المصادفة أن تجمع والده المخرج برج فازليان، بالراحل وليد غلمية رئيس «المعهد الوطني العالي للموسيقى» في لبنان. سأله الأخير عن ابنه، فأخبره برج بما آل إليه هاروت من دراسة وتخصص، فردّ غلمية: «إذا أراد ابنك أن يعود إلى لبنان، فله مكان بقربي في «الكونسرفتوار». نحن لا يوجد عندنا أوركسترا في لبنان، وأريده أن يكون إلى جانبي في تأسيس هذه الأوركسترا». بدأ المايسترو الشاب مع وليد غلمية مشروع تأسيس الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية التي أُعلنت ولادتها عام 1999، وعيّن هاروت قائداً لها. وفي العام التالي، تقرر ضم موسيقيين أجانب إلى صفوفها، فصارت تتألف من أكثر من 100 عازف يقودهم المايسترو. ساهم هاروت أيضاً في تعزيز وإعادة إحياء الأوركسترا الفلهارمونية الأرمنيّة في لبنان، وفي إنشاء وتنظيم قسم الموسيقى في «جامعة هايكازيان».
في هذا الوقت، اتصل الياس أبو صعب زوج الفنان جوليا بطرس، بهاروت فازليان، ودعاه إلى قيادة فرقتها في حفل غنائي حيّ سيقدم في بلدة أرنون الجنوبية في مناسبة التحرير. «سألتُه من هي جوليا بطرس؟ كنت حينها لا أعرف الفنانين في لبنان، إذ لم يمر على عودتي أكثر من ثلاث سنوات، وقد أنبتني زوجتي نورا لأنني لا أعرف مَنْ تكون جوليا. التقيت بشقيقها زياد بطرس، وحصلت منه على CD يحوي أعمالها. بعدما سمعت أغنيتي «يا قصص» و«ربما»، أطفات الجهاز واتصلت بزياد وقلت له: «أنا معكم». كانت أغنيات جوليا غير عادية، لناحية صوتها والميلودي والتوزيع. مرّ 12 عاماً من التعاون والثقة بيننا». الأمر ذاته تكرر مع بعض حفلات فيروز، حيث قاد أمسياتها عامي 2010 و 2011. وفي العام الماضي أيضاً، قاد أول عمل مسرحي غنائي وموسيقي حيّ تحت عنوان «من أيّام صلاح الدّين» قدّمها الأخوان فريد وماهر الصباغ على خشبة «مهرجانات بعلبك». إلى جانب تسلّمه أموراً إدارية في «الكونسرفتوار» بعد رحيل رئيسه وليد غلمية، يقود المايسترو العديد من الأمسيات الموسيقية من موقعه قائداً للأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية. وفي 4 شباط (فبراير) من العام الجاري، قاد فرقة جوليا بطرس في مهرجان على «مسرح بلاتيا» في ساحل علما في جونية (جبل لبنان). وفي أيار (مايو) الماضي، قدم أمسية خاصة بموسيقى الـ Zarzuelas في «كاتدرائية القديس يوسف للآباء اليسوعيين» (الأشرفية)، عزفت فيها الفرقة الفلهارمونية اللبنانية، كما صاحبت موسيقى الأوركسترا التي يقودها فازليان، العروض الأربعة لمسرحية «كان يا ما كان» التي قدّمتها فرقة «كركلّا» أخيراً ضمن فعاليات «مهرجانات بيت الدين 2012».




5 تواريخ

1962
الولادة في محلة الظريف (غرب بيروت).

1983
التحق بأكاديميّة «ميليكيان الأرمنيّة للموسيقى» في أرمينيا

1990
نال ماجستير في قيادة الأوركسترا الأوبراليّة، وفي قيادة السمفونيّة الهرمونية القديمة، من «كونسرفتوار كوميتاس» في أرمينيا

1999
أُعلن تأسيس الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية بقيادة المايسترو هاروت فازليان

2012
يقود الأوركسترا الفلهارمونية وقدم معها عدداً من الأعمال آخرها في مسرحية «كان يا ما كان» ضمن «مهرجانات بيت الدين»