حبّ الكتب والقراءة هو مرض ألبرتو مانغويل (1948). في كتابه «المكتبة في الليل» الذي صدر عام 2006 وعرِّب أخيراً (دار المدى ــ ترجمة عباس المفرجي)، يقدّم القارئ الشهير رؤية إلى العلاقة بين القارئ والكتاب في محيط مكتبته، منطلقاً من نظرة شخصية إلى مكتبته الخاصة وعلاقة الآخرين بمكتباتهم، سارداً تاريخ المكتبة بين الأسطورة والإنسان. في الكتاب الذي ترجمه عباس المفرجي، يبحث صاحب «تاريخ القراءة» في معنى اقتناء الكتب وبناء مكتبة، وحتى في العلاقات الخفية التي تنشأ بين الكتب من خلال ترتيبها. يمثل الشغف بالكتب هنا مركز «المكتبة في الليل»، كعادة مانغويل في مؤلفاته. الكاتب والروائي الأرجنتيني المقيم حالياً في فرنسا، ينطلق من مكتبته الخاصة التي شيدها فوق حظيرة ماشية تعود إلى القرن الخامس عشر، ليسجل سيرة المكتبات عبر التاريخ، من واقع دهشته تجاه عملية تجميع الكتب.

يسجل مانغويل اعترافه بفشل مسعى الإنسان في إضفاء نظام على العالم المفتقد للمعنى. نظرة رومانسية تشاؤمية في بعدها الواسع.
في الفصل الأول «المكتبة أسطورة»، تختلف المكتبة في النهار عن الليل، متحولة من مكان نظام منطقي إلى تقليدي فاقد لرتابته غير المفهومة التي تتيح بدورها إمكان تخيل العالم على ما هو عليه من فوضى. خصوصية الكتب وحب الاقتناء هما ما يشدد عليه مانغويل الذي يحتفظ بقائمة كتب يود اقتناءها «لمجرد متعة امتلاكها أكثر من ضرورتها». وعلى اعتبار مكتبته عالمه الخاص، يربط مانغويل بين بناء هذا العالم، وبين الغاية ـــ مثلاً ـــ من بناء برج بابل ومكتبة الإسكندرية في قهر المكان والزمان. الترتيب وسيلة مهمة في هذا البناء، ويسمح ـــ إذا كان شخصياً ـــ بخلق ذلك العالم الخاص، لكن مانغويل ينفر من النظرة الإجبارية للترتيب الذي يفرض على قارئ المكتبات العامة. إنه حلم إيجاد مكتبة مثالية. لذلك ينظر الكاتب إلى «فيزياء» المكتبة عبر التاريخ باعتبارها «مادة». لكن هل افتراضه أننا جميعاً نسعى إلى مكتبة تضفي نظاماً على الكون هو افتراض صحيح؟ ربما، لكن رومانسية مانغويل في حلمه بالمكتبة المثالية تفرض تلك الرؤية، وبنحو غير مباشر، تبدو المكتبة بـ«ثقل غيابها» أهم من المعرفة ذاتها، لما تعنيه له من محاولة احتواء العالم، لا تفسيره غير المجدي. «تراكم المعرفة ليس معرفة» يقول، والمكتبة «تلقائياً فائضةٌ عن الحاجة». يخبرنا عن قانون كان سارياً في نهاية القرن الأول الميلادي في مدينة ليون الفرنسية، يجبر الخاسرين في المسابقات الأدبية على محو كتاباتهم بألسنتهم لكي لا يبقى أدب من الدرجة الثانية موجوداً. كذلك، روى مانغويل عبر فصول الكتاب الـ 15، سيرة المكتبة وتمثيلاتها عبر التاريخ، مدعماً ذلك بأمثلة عديدة. يكتب عن العلاقة بين المكتبة والقارئ، بين الشكل والوظيفة، وبين التاريخ والتطور، غير مقتنع بالمكتبات الإلكترونية. تزعجه اللانهائية هنا، فهو خائف على ضياع التاريخ، لأن «النص المستحضر على الشاشة ليس له تاريخ». جنته هي المكتبة، مثل بورخيس الذي كان مانغويل أحد قارئيه بعدما فقد بصره. إنها «بيبليوفيليا» ينطلق منها ألبرتو مانغويل، ليسرد سيرة المكتبة التي هي سيرة شخصية يروي تاريخه من خلالها أيضاً.