يختزل الشاعر السوري إبراهيم الجرادي تجربته في الكتابة والعيش على أنها «تمارين على الألم». مقتل شقيقه في صراع على الأرض في قرية حدودية في صباه، ترك جرحاً غائراً في روحه: «طلقتان اثنتان. طلقتان فقط، في ذلك المساء الكئيب، ما زال صداهما يتغلغل في روحي، ويستقر كالكسل في ضلوعي، فيزيد من ألمي وسخطي اللذين لم أستطع التخفف من ثقلهما، رغم مرور نحو خمسين عاماً على الواقعة». لعل هذا ما أورثه السخط إلى اليوم. كان متاحاً للفتى البدوي أن يغرق في متاهة العشائر وسطوة القبيلة وقيمها المتوارثة، لكنّ كتاباً يحوي مختارات من الشعر العربي القديم، وجده صدفةً في مضافة شقيقه الأكبر، شدّه بخيط غير مرئي إلى دروب أخرى غير متوقّعة.
انتقاله من قرية بندرخان المتاخمة للحدود التركية السورية، إلى مدينة الرقة على ضفاف الفرات، وضعه في مناخ ثقافي محموم بمشاركة مجموعة من أصدقائه في المدرسة الثانوية. هؤلاء الذين سيشكّلون لاحقاً «جماعة ثورة الحرف» (1968). في تلك المدينة القصية المستباحة من الغرباء والوافدين، كان الكتاب هو الشغف الوحيد لمواجهة ساعات الرمل المضجرة، إضافة إلى المجلات الأدبية التي تصل متأخرة كالعادة. سوف يغامر بإرسال قصيدة إلى مجلة «الآداب» البيروتية، كما سيقوم سرّاً، بشراء كل نسخ العدد الذي نُشرت فيه قصيدته الأولى «شطحات البسطامي». يستغرب اليوم تلك الحماسة الهوجاء في الذهاب إلى حلب في باص «الهوب هوب» صباحاً ، والعودة مساءً، لسبب وحيد هو الحصول على نسخة من مجلة «شعر» التي لم يحملها البريد يوماً إلى مدينة الرقة، واكتشاف معنى الحداثة الشعرية عن كثب: «نهم القراءة وحده من أنقذ حياتنا القلقة في تلك البادية المنسيّة، إلى الدرجة التي تجعل تمرّد ألبير كامو تمرّداً شخصيّاً يخصنا في الدرجة نفسها، نحن جيل ما بعد هزيمة حزيران، ذلك الجيل المشحون بالرفض الوجودي، وطاقة التمرّد، وشهوة الهدم». بسبب السخط أيضاً، انتسب إلى «الحزب الشيوعي السوري»، ثم انضمّ إلى «منظمة الأنصار» للعمل الفدائي في بيروت، قبل ذهابه في بعثة لدراسة السينما في موسكو. هناك كتب قصيدة يهجو بها خالد بكداش، ما أثار غضب الأمين العام لـ«الحزب الشيوعي السوري» حينذاك، ففُصل من المعهد، واختار دراسة الأدب المقارن في «معهد كراسنودار». يقول: «في موسكو اكتشفت الظلم وهو يتستّر بالنظرية، بما يجعل الخنوع رضى، وفي المقابل تعرّفت إلى الإرث الكلاسيكي العظيم في الثقافة الروسية، رغم القبضة الصارمة التي كانت تتحكّم في الثقافة السوفياتية في مطلع السبعينيات». سوف يطلُّ على المشهد الشعري السوري في أواخر السبعينيات بصخب. نبرة شعرية لاذعة وبلاغة نافرة، ومقترح مضاد، مهّد له في كتابه الأول «أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة»، وتلاه «رجل يستحم بامرأة»، و «شهوة الضد»، مستنفراً أشكالاً تعبيرية متعددة في إنشاء نص سردي وتشكيلي في فضاء واحد سماه «ريبورتاجات شعرية»، لكن هذا الجموح الشكلاني سيخفت تدريجاً لمصلحة نبرة إيقاعية عالية، فرضتها تحولات فجائعية استدعت خطاباً بلاغياً في استنفار المحنة الذاتية... على الأرجح بتأثير إقامته الطويلة في صنعاء، وانخراطه في العمل الأكاديمي، واستسلامه لكسل جلسات «القات» في المقيل اليمني. يختصر سنواته اليمنية بأنها «فسحة حرية في بلد خارج الضوابط المتعارف عليها، ومحطة أبعدتني عن إطار التناسخ الذي عاشته سوريا في حقبة الثمانينيات»، لكن هل رمّم صاحب «عويل الحواس» سنوات غيابه عن دمشق؟ يجيب: «لم أرضَ يوماً عمّا أنا عليه. ربما بسبب اليأس واللايقين، واستشراء اللغو الوطني المتستّر على غايات طارئة ورخاوة أخلاقية». يستدرك: «أنا كائن مضطرب. ظننت أنني سأحقق ذاتي بمجيئي إلى المكتب التنفيذي في «اتحاد الكتاب العرب» ككاتب مستقل وخارج الشبهات الحزبيّة، وحين اكتشفت نتائج الخطأ، انسحبت وأعلنت استقالتي، فالخروج من هذا المكان القائم على الاستحواذ والنفعيّة والسكونيّة، هو موقف وطني بامتياز، في هذه اللحظة المشتعلة».
هكذا، عاد صاحب «الذئاب في بادية النعاس» إلى عزلة الكتب. نفض الغبار عن مكتبته المهملة منذ سنوات، وأطاح كتباً فائضة، واكتشف نصوصاً قديمة، واستعاد قراءة رسائل من أصدقاء بعيدين، ومشاريع لم تُنجز، على وقع صوت الانفجارات التي باتت «لحناً يومياً لا فكاك منه» في الشوارع القريبة من منزله في حي برزة الدمشقي. لم تقنعه «صيدلية الأدوية المتنقلّة» بأنه تجاوز عتبة الستين بأمراض لا تحصى، كان آخرها مرض السكري، وهذا مبرر إضافي لنزقه الدائم ونفوره مما لا يرضي ذائقته. لا يتوانى صاحب «دع الموتى يدفنون موتاهم» عن وصف أصحاب التجارب الشعرية الجديدة في قصيدة النثر بأنهم «شعراء الطنين والأرصفة»، ممجّداً في الوقت نفسه تورّطه بالنبرة الإيقاعية. «ما من قوة نقدية نافذة الآن، تستطيع أن تحسم أمراً، والمزج بين النثر والإيقاع ليس تهمة على كل حال، فللشاعر الحرية في أن يختار طريقة حياته وموته أيضاً» يقول. لعل الإجابة الكاملة عن قلق هذا الشاعر السوري في اختيار خندقه الشعري، تكمن في كتابه الشعري الأخير «محمود درويش ينهض»، إذ يعترف بقوة تأثير مجاز محمود درويش على نصه لجهة تشذيبه الشعر من فائضه نحو دلالات جديدة ومبتكرة للغة. يوضح: «محمود درويش بنى لي حدائق أستظل بها، وأستفيد منها، فهو كشّاف شعري من طراز خاص». العطالة التي يعيشها اليوم، بعدما هجر التدريس في الجامعة، وضعته أمام اختبار شعري جديد ومغاير لتجربته السابقة من خلال نصّ متشابك بعنوان «حديقة الأنقاض»، يقول عنه إنه «رهان على تشظي الكتابة، بإلغاء الفوارق بين أشكال التعبير، ويذهب بعيداً في خلط الأجناس، من دون أن يؤدي إلى التناقض. نص كلّي لا يخضع لتوصيف معيّن، ولا يستسلم لمشهدية مستقرّة، لعله ترجيع بصري للمشهد السوري اليوم بكل اضطرابه».
بعد ترحاله الطويل، يرغب إبراهيم الجرادي في أن يعيش «فضيلة الكسل»، من دون مخططات، أو مشاريع، أو أوهام: «العمل الوحيد الذي أشعر بقيمته، لا مردود ملموساً له... أقصد فعل القراءة».



5 تواريخ


1951
الولادة في قرية بندرخان في محافظة الرقة على الحدود السورية ـ التركية

1981
صدور كتابه الشعري الأول بعنوان «أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة» (إصدار خاص ـــ دمشق)

1993
نال دكتوراه من «معهد الأدب العالمي» في موسكو

2010
استقرّ في دمشق، وصدر كتابه «محمود درويش ينهض» (دار كنعان ـــ دمشق)

2012
يضع اللمسات الأخيرة على كتاب بعنوان «حديقة الأنقاض»