ثمّة ثورة تمرّ بصمت بين أبنية وسَط بيروت الأنيقة وشوارعها الصماء. إنّه صمت مسموع، تنطق به الصورة، فيبعث رفضاً مرئياً. رغبة في تكسير الأطر التي تفرضها النظم السياسية والاجتماعية على النساء والرجال معاً في المجتمعات الشرق أوسطية. بعنوان «بعث آخر» أوThe Other Resurrection، تعرض مجموعة «راوية» الفوتوغرافية التي تضمّ ستّ مصورات أعمالها في غاليري «مارك هاشم» بعد نجاح المعرض في قاعة «كاب للفنون المعاصرة» في الكويت في أيار (مايو) الماضي. امرأة تجلس في حديقة عامة بلباس شرعي أسود لا يظهر من جسدها سوى عينيها.
وفي صورة أخرى، يبدو المناخ مناسباً للتنزّه، فمع غياب الطائرات عن سماء غزة، يصير للأرجوحة تحت الدالية طعم ألذ. القصة الأولى التي تقدمها «راوية» تبدأ مع رحلة إلى القطاع من خلال عدسة تانيا حبجوقة (الأردن) المقيمة حالياً في القدس المحتلة. تهتم حبجوقة في إظهار غزة في صورة جديدة، غير تلك المعتادة المدفونة تحت ركام الحرب الإسرائيلية والانقسامات السياسية. تحكي حبجوقة بالكاميرا عن نساء القطاع اللواتي يقاومن الحصار بالحياة وبحثهن الدائم عن «لحظات من الحرية». في مجموعتها Women of Gaza تختصر حبجوقة الحصار بكل دلالاته في لقطة لامرأتين محجبتين افترشتا رمال شاطئ غزة بالرداء الطويل رغم الحر، فيما اخترق قلب الصورة حصان جامح يمتطيه فتى يلبس سروالاً للسباحة.
على عكس فكرة الذكورية الخالصة التي يمثّلها الحصان في مجموعة حبجوقة، ظهر الرجال في سلسلة Picture An Arab Man بملامح عربية حالمة وهادئة وهم شبه عراة. صور بسيطة في تأليفها، تعزز الإحساس بحياة مسالمة وآمنة. هكذا، أرادت تمارا عبد الهادي ــ العراقية التي نشأت في كندا ــ أن تكسر القالب النمطي للرجل العربي لدى الغرب والعرب معاً، وخصوصاً ذلك الذي ساد إعلامياً بعد اعتداءات سبتمبر. جسد رجل آخر تحول إلى امرأة في مجموعة نويشا تافاكوليان. ترصد الفنانة الإيرانية حياة «العمة ماريا» التي ولدت وعاشت شبابها كرجل إيراني يُدعى أصغر. في مجموعة حملت اسمها بالإنكليزية، نرى ماريا في لقطات بالأبيض والأسود، حيث أبرزت تافوكوليان الوحدة التي لازمت المرأة المتحولة جنسياً بعدما كشفت الصحافة قصتها، ما أجبرها على عيش حالة من العزلة في مجتمع لا يتقبّل أمثالها. في سياق «محرمات الجسد» أيضاً، استضافت «راوية» التشكيلية فاطمة مرتضى في فيديو فني (تصوير بهاء سوقي) حمل عنوان Hymnomania. هنا تطرقت الفنانة اللبنانية إلى عملية رتق غشاء البكارة في دعوة «لتحطيم الأنظمة السياسية والاجتماعية والدينية»، على حد تعبيرها. في العمل، تظهر مرتضى نفسها في مشهد تمثيلي عبر لقطات Stop motion عبّرت فيها عن الضغط النفسي الذي يعتري المرأة بعد أن تُجرى لها عملية ترميم غشاء البكارة.
إلى جانب الجسد وثورته، كانت للشعوب في ثورتها على الأنظمة السياسية مساحتها في المعرض. في مجموعة Transition أو «تحوّل»، نرى مصر التي بُعثت من جديد في العام الماضي، حيث نطقت جدرانها بشعارات ولوحات من الغرافيتي، فاختارت الفرنسية من أصل مصري، ميريام عبدالعزيز حفظها داخل إطارات بيضاء كأعمال فنية مستقلة بحد ذاتها أو كصور تذكارية للغرافيتي مع تفاصيل من حياة الشارع المصري. وفي مصر أيضاً، حملت الفلسطينية لورا بوشناق كاميراها وجالت بها على نساء خلقن ثورتهن الخاصة قبل «25 يناير»، فاخترن حمل القلم ليكسرن به جدراناً صماء ضمن برنامج خاص لمحو الأمية. في مجموعة بوشناق، تكلمت الصورة بلسان نسائها بعدما خطت كل منهن هويتها أو أمنيتها مباشرة فوق صورتها المطبوعة، في أعمال قاربت الملصقات الفنية بفكرتها وتنفيذها. وتشكل تلك المجموعة المرحلة الأولى من مشروع «أنا أقرأ، أنا أكتب» الذي بدأ منذ ثلاث سنوات، ولا تزال آخر محطاته مستمرة في العاصمة الأردنية.
قضية مفقودي الحرب اللبنانية تبنّتها داليا خميسي (لبنان) في مجموعة «شعب في حالة إنكار» The Missing: 17000 Missing: A Nation in Denial، قدّمت منها أربعة أعمال في «مارك هاشم». إضافة إلى صور أهالي المخطوفين، التقطت الفوتوغرافية اللبنانية صوراً لأغراضهم الشخصية التي احتفظ بها أهاليهم... مع العلم أنّ خميسي قامت بزيارة أهالي المفقودين في بيوتهم، واعتصامهم في حديقة جبران وسط بيروت، أثناء اشتغالها على المشروع. الفنانات في مجموعة «راوية» قدّمن نموذجاً ناجحاً للصوت الجماعي الرافض للقيود الاجتماعية والسياسية. هن المهتمات بعرض أعمالهن في العالم العربي، تستمر رسالتهن الفوتوغرافية في «بعث آخر» في النجاح عربياً، وينتظر أن تكون ذات أثر أقوى في مواجهة الآلة الإعلامية الغربية.



معرض «بعث آخر»: لغاية اليوم ـــ غاليري «مارك هاشم» (ميناء الحصن، بيروت) ـــ للاستعلام: 01/999313