في كتابه «صورة الشعب بين الشاعر والرئيس... فؤاد حداد» (الكتب خان ــــ القاهرة ـــ ٢٠١٥)، يؤكد الناقد والأكاديمي الدكتور سيد ضيف الله أنّ شاعر العامية المصري من أصل لبناني فؤاد حداد استطاع أن يعيد تشكيل هويته بإرادته الفردية في مخالفةٍ صريحة للتقاليد المجتمعية المتوارثة، فهو المسيحي الذي يختار الإسلام ديناً، وهو المسلم الذي يختار الإسلام من أجل الإنسان لأنّه دين الأغلبية الفقيرة، وهو خريج المدارس الفرنسية الذي اختار أن ينطق ويكتب بالعربية، بل يكتب شعره بالعامية، وهو السابح في ملكوت الفصحى، والسبّاح في بحور موسيقاها.
كما أنّه استطاع أن يخرج من أسر التمييز المقنن الذي تشرّع له السنن الأدبية. فؤاد حداد من أبرز شعراء مصر في القرن العشرين، ينظر اليه باعتباره المؤسس الحقيقي لشعر العامية الملحمي، وأطلق عليه كذلك «فنان الشعب». من أبرز أعماله «المسحراتي» و»النقش باللاسلكي» وأصدر ما يزيد عن ٣٠ ديواناً، نشرت غالبيتها بعد وفاته، إذ أمضى أغلب سنوات عمره في السجون بسبب انتماءاته السياسية. ولد ابوه في بلدة «عبيه» في لبنان في كنف أسرة مسيحية بروتستانتية لوالدين بسيطين اهتما بتعليمه حتى تخرّج في الجامعة الأميركية في بيروت، متخصصاً في الرياضيات المالية. بعدها، جاء إلى القاهرة قبيل الحرب العالمية الأولى حيث عمل مدرساً في كلية التجارة­ «جامعة فؤاد الأول».

­
مؤلف الكتاب ضيف الله نال درجة الدكتوراه قبل عامين (بامتياز مع مرتبة الشرف الاولى) عن الكتاب الذي كان رسالته المقدمة لـ «جامعة القاهرة» تحت عنوان «أشعار فؤاد حداد من منظور النقد الثقافي». وقد يكون هذا الكتاب أول دراسة جامعية لشعر حداد، وقد شمل إلى جانب الأعمال الشعرية الكاملة، خطب رؤساء مصر الموازية لها زمنياً (عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك).
عمل ضيف الله أستاذاً مساعداً للدراسات العربية في «جامعة بريغهام يونغ» في الولايات المتحدة، وهو الآن محاضر في الجامعة الأميركية في القاهرة. قاربت دراسته أربعة أسئلة أساسية ميّزتها عن باقي الدراسات التي قاربت شاعر العامية الكبير وهي: كيف قرأ فؤاد حداد الثقافة عبر قراءته لذاته الشاعرة في علاقتها مع الشعب باعتباره آخر؟ إلى أى مدى نجح في تشكيل الهوية الثقافية لذاته الشاعرة في حوارها مع السنن الأدبية؟ إلى أى مدى يختلف نسق تمثيلات الشعب من موقع التكلم الخاص بالشاعر فؤاد حدّاد عن نظيره من موقع التكلم الخاص بمنصب الرئيس في الخطابات الرئاسية لناصر، والسادات، ومبارك الموازية زمنياً للخطاب الشعري؟ وأخيراً، هل ثمة علاقة بين نسق تمثيلات الشعب في الخطابين الاستعاريين ـــ الشعري والرئاسي ـــ وبين إخفاق مشروع التحديث ذي الصبغة القومية التحررية الذي بدأ في النصف الثاني من القرن الماضي؟

أعاد تشكيل هويته بإرادته الفردية في مخالفةٍ للتقاليد المجتمعية المتوارثة

تشير الدراسة الى أنّ تمثيل الشعب باعتباره آخر من موقع تكلم فؤاد حداد، يمكن فهمه بشكل أعمق عند قراءته في ضوء التمثيل المناظر له من موقع تكلم الرئيس؛ لا لنُجيب فقط عن سؤال علاقة تمثيل الشعب في الخطابين بما آل إليه مشروع التحديث ذي الصبغة القومية والتحررية في النصف الثاني من القرن العشرين، بل لفحص مدى صدق قول إدوارد سعيد حين قال: «إن دور المثقف هو أن يقدم سردياتٍ بديلةً ومنظوراتٍ للتاريخ مغايرةً لتلك التي يقدمها مقاتلون نيابة عن الذاكرة الرسمية وعن الهوية والرسالة القوميتين (...) إن المثقف ما هو إلا ذاكرة مضادة».
وقدّم ضيف الله تصوّراً لمفهوم «تمثيل الشعب»، فناقش هذا المدخل من ثلاث زوايا موزعة على فصول عدة؛ كان أولها عبارة عن مقاربة للوعي النقدي في شعر العامية عند فؤاد حداد على النحو الذي تظهره حواراته الصحافية ومقارنته بالوعي النقدي في الفنون المعربة وغير المعربة عند صفي الدين الحلّي. كذلك، قدّم الباحث قراءة نقدية في النظام الأدبي المستند إلى تراتبيات اجتماعية وإنسانية عبر ترسيخه وشرعنته لتراتبيات لغوية وجمالية، وعرض تصوّره للنقد الثقافي ليس باعتباره بديلاً لنقد أدبي، بل باعتباره نشاطاً نقدياً دنيوياً بتعبير إدوارد سعيد. كما لا يعني التعايش بين النقد الأدبي والنقد الثقافي نفي الصراع بينهما. وخصّ الدارس «المسحراتي» ــ أكثر دواوين فؤاد حداد جماهيريةً ـــ بدراسة مفصلة، إذ تحوّل بفضل صوت سيد مكاوي إلى جزء من البرنامج السنوي للذات القومية بسبب ارتباطه بفريضة إسلامية هي صيام شهر رمضان. والجماهيرية معيار أساس من معايير النقد الثقافي عند اختيار ظواهره لوضعها على مائدة الدرس النقدي، محاولاً الكشف عن العلاقة بين الجماهيرية وهيمنة الوعي الشفاهي القبلي على تمثيل الهوية الثقافية للذات الجماعية.
وتوقف الباحث أمام نسق تمثيلات الشعب في خطاب فؤاد حداد الشعري والخطابات الرئاسية عند ناصر، والسادات، ومبارك، ورصد التوازي الزمني بين وقت كتابة القصائد داخل الدواوين الشعرية، ووقت إلقاء الرؤساء لخطبهم منذ عام 1952 حتى عام وفاة فؤاد حداد 1985.
وتعرّض الكتاب لإشكاليات دراسة شعر العامية. وقال ضيف الله خلال المناقشة العامة للدراسة ​إنّ التغافل عن مدى عمق الصلة بين مفهومٍ للأدبية يستند إلى تراتبية لغوية وبين تصور مؤسسة النقد الأدبي ذات الموروث البلاغي للمجتمع باعتباره مجتمعاً مستنداً إلى تراتبيات اجتماعية وثقافية هو أمرٌ يمكنه أن يفسِّر إلى حدٍ بعيد وجود بقية الإشكاليات التي يثيرها شعر العامية باعتباره شعراً خارجاً على السنن الأدبية، وفي قلب هذه الإشكاليات النظر إلى شعر العامية باعتباره مهدداً للقوميات المستندة للتراتبية العرقية المُتخيّلة (القومية العربية) والتراتبية الدينية المُتخيلّة (الأمة الإسلامية).​ ولهذه الأسباب، اختار الباحث فؤاد حدّاد نموذجاً للدراسة ليس باعتباره ممثّلاً لشعر يعاني الإهمال النقدي، بل بوصفه شاعراً استطاع أن يعيد تشكيل هويته بإرادته الفردية في مخالفةٍ صريحة للتقاليد المجتمعية المتوارثة.