يصف حسن عبد الله كتابه الجديد «ظل الوردة» (دار الساقي) بأنه «شعر وتأمل». كأن الشاعر اللبناني الذي عوّدنا على إقلاله في الشعر ورهافته في كتابته، يتخفف من الشروط الصارمة للشعر، لكنه في الوقت نفسه يرفع تأملاته إلى مستوى الشعر. هكذا، لا ينجو صاحب «الدردارة» (1981) من تطلُّبه وشغفه حتى وهو يكتب خلاصاتٍ وشذراتٍ لا يضعها تحت مسمَّى الشعر. الواقع أننا لا نحتاج إلى هذا التواضع أو التوضيح الذي يتلاشى سريعاً ما إن نفتح الكتاب، ونقرأ المقطع الأول فيه: «هناك شيء تمسك به الحياة/ وتُخفيه وراء ظهرها/ ولن أتوقف عن الكتابة/ حتى أعرف/ ما هو». استعارة ذكية تجعل هوية ما سنقرأه مسألة إجرائية، بينما تَعِدنا المقاطع التالية بتأملاتٍ تتضمن الخلود ذاته الذي يتسكّع داخل المقطع الاستهلالي. لن نسأل أنفسنا إن كان هذا شعراً أم تأملاً، ما دام ما يُدهشنا به الشاعر يحظى بمهاراتٍ الشعر وحِيَلِه.
هناك فلسفة شخصية محبَّبة تسري في مقاطع الكتاب. فلسفة ترفع نثريّات الحياة ومشهدياتها العابرة إلى استعاراتٍ مباغتة ومشعّة. ما هو عارضٌ ومهملٌ يتجوهر داخل هذه الكتابة الذاهبة إلى عصبِ الأشياء والأفكار المتواجدة فيها. كل مقطع هو استعارة واحدة تقريباً. ممارسةٌ متقشفة كهذه تذكّرنا بشعر الهايكو الياباني لناحية الكثافة اللغوية، والحضور الشاسع للطبيعة. الهايكو يجعلنا نستسيغ فكرة أن يكون ما نقرأه مترجماً عن لغة أخرى، وأن الترجمة تُبقي المعنى كاملاً، ولكنها تضحّي بالجانب الأدائي من شعرية الأصل. هناك مذاقٌ مباشر لبعض المقاطع يجعلها أقرب إلى المقولات (غير المأثورة طبعاً)، كما هي الحال في: «الطبيعة تعرف كيف تعاقب/ أولئك الذين وظّفوا الجنس/ لغير غاية الحفاظ على النوع/ إنها تجعل منهم عشاقاً»، أو في: «الطريق إلى الله ضيقة/ بحيث لا يستطيع أن يسلكها الإنسان/ إلا بمفرده». لكن الخيال المبذول في هذه المقاطع يوقعنا في شراك المعنى قبل أن ندقق في كيفية حدوث ذلك. الزاوية التي يتأمل منها الشاعر الأشياء تؤمّن له غلّة وفيرة من الصور والأفكار. يستثمر حسن عبد الله أجزاءً من سيرته المتوزعة على طفولة جنوبية وإقامة بيروتية. تحضر مناخاتٌ من دواوينه السابقة، إلا أنها مواربة أكثر، ومقطّرة، ولائقة بصاحب السيرة الذي كهَّلتْهُ الحياة، وأبقاه الشعر طفلاً. في أحد المقاطع، يقرّ بأن «رجلاي خائرتان/ لدرجةٍ أشعر معها/ بأنني لم أعدْ قادراً/ حتى/ على مجرّد التقدم في العمر»، ويأسف «لجمال تلك الأيام/ التي كنا نحيا فيها الحياة/ من دون أن نراها»، ويحنّ «إلى تلك الأيام/ التي لم يكن فيها وقتي ثميناً». لا يمر الزمن الشخصي من دون ترك علاماته الثمينة على الكتابة. تتحالف الذاكرة الأولى مع الطبيعة الريفية التي احتضنتها: «أخرجُ من المنزل في أعلى التل / فيباغتني الفضاء الرحب فوق السهل/ ويشدني إليه الأفق/ عندها، أفردُ جناحيّ وأحلِّق/ لستُ طائراً، ولكنْ/ للضرورة أحكامها». فرادة هذه الكتابة متأتية من خفوت نبرتها، ومن براعة هائلة وغير متباهى بها في استدراج أي فكرة أو مشهد حياتي إلى شعرٍ صافٍ أو تأملٍ فلسفي شديد العذوبة. براعةٌ تضمن لنا أن نفتح الكتاب كفيما اتفق، ونحن واثقون من العثور على كنوزٍ لائقة. يحدث ذلك لمجرد وضع كلمة «تنبحُ» في قصيدة بديعة مثل: «كانت الأزهار البيضاء والصفراء والحمراء/ تنبحُ في أنحاء الحقل/ كأنها في حربٍ مع المتنزهين الذين/ لا يحوّلون أنظارهم عنها». ويحدث أيضاً في امتداح امرأة مكتفية بابتسامة وحيدة: «لا لؤلؤة على الصدر/ ولا أقراط في الأذنين/ ولا سوار في المعصم/ رغم ذلك/ فابتسامتها تلمع/ كطنٍّ من
الذهب».
الكثافة المدسوسة في كل مقطع تذكّرنا بحساسية حسن عبد الله التي اهتدى إليها منذ بداياته. كتب صاحب «أذكر أنني أحببت» (1978) قصيدة تفعيلة متخففة من التهويم البلاغي والتفجع الدرامي. لامس الموضوعات المباشرة كما في قصيدته الشهيرة «أجمل الأمهات»، لكنه ظل حريصاً على شعرية عالية. نتذكر ذلك السطر الخالد في قصيدته «صيدا»: «حفروا في الأرض/ وجدوا رجلاً يحفر في الأرض». نتذكر إيقاعاته المرنة وانتباهاته الذكية للجزئيات والتفاصيل في ديوانه «راعي الضباب» (1999). كأن حسن عبد الله كتب أشعاره، وكان ناقدها أيضاً. تفعيلاته الخافتة سهّلت عليه كتابة تأملاته الجديدة بالنثر العادي.
التأمل يمتزج أحياناً بسخرية خفيفة يُجيدها حسن عبد الله بطلاقة. إنه أكثر ميلاً إلى الحكمة في كتابه الجديد، لكنها حكمة الشاعر الذي يلخّص العيش والكتابة في مقطع واحد: «لقد أمضيتَ حياتكَ/ وأنت تنقّبُ في الأرض/ فماذا جنيت؟/ لِمَ لا تحملُ معولك/ وتتجه إلى السماء».



مع عباس بيضون

بالنسبة إلى حسن عبد الله «لا شيء أخطر على الشعر/ من كتابته/ بطريقةٍ «شعرية»». ملاحظةٌ تفضح الكثير من الشعر الذي ينفسد كلما حشوناه بالشعر الزائد. دعوةٌ ذكية يلتقي فيها مع مجايله وصديقه عباس بيضون الذي يحضر فجأة في استعارة مؤثرة: «في الليل، في «الخِيام»/ أمشي برفقة القمر/ وفي الليل في بيروت/ برفقة عباس بيضون».