في كتابه «تاريخ سورية الحديث» (دار الريس ــ 2012)، يؤرخ هاشم عثمان لفترة زمنية تمتد بين عامي 1918 و 1971. يرصد الكاتب السوري التحولات السياسية التي شهدتها سوريا بدءاً من العهد الفيصلي وصولاً إلى حكم حزب البعث. يقدم صاحب «العلويون بين الأسطورة والحقيقة» مادة تاريخية غنية بالمعلومات والأحداث. تكمن أهمية العمل في تقسيم تاريخ سوريا الحديث إلى حقب متعاقبة. وهذا التحقيب يقترب إلى الصيغة الكرونولوجية، ما يسهل على القارئ الإحاطة بمختلف المتغيرات والتحوّلات التي شهدها هذا البلد على امتداد خمسين سنة تقريباً، أي منذ ثورة الشريف حسين وصولاً إلى حكم البعث. لا يهدف الكاتب إلى تلميع صورة هذا التاريخ، بل يكشف عن وجهه الأسود والأبيض، وقد ابتعد قدر الإمكان عن الأيديولوجيا واقترب من اللغة المحايدة.

هذا الحياد لا يعني أنه اكتفى بالسرد، بل إنه يجمع المعطيات ويؤسس عليها خلاصاته.
اعتمد عثمان على مصادر مختلفة، من بينها الصحف ومذكرات رجال السياسة وبعض ضباط الجيش ونشرات الأحزاب السياسية والكتب والدراسات التي تناولت الفترة التي درسها. لم يكن سهلاً عليه ـــ كما قال ــ التدقيق في المعلومات بسبب التناقض بين الروايات والتضارب في التواريخ، ما دفعه إلى المقارنة والاجتهاد للخروج بأقل قدر ممكن من الأضرار العلمية. يحاول الكاتب تقديم خريطة طريق للمجهول السوري، وخصوصاً أنّ كثيرين يشكون غياب مراجع ودراسات شاملة، إذ يجري تناول أجزاء من هذا التاريخ، لا كل جوانبه.
يقسم صاحب «صفحات مجهولة في تاريخ القضية الفلسطينية» دراسته إلى العهود الآتية: العهد الفيصلي، عهد الانتداب الفرنسي، عهد الاستقلال، مرحلة الانقلابات المتتالية: انقلاب حسني الزعيم، انقلاب سامي الحناوي، انقلاب أديب الشيشكلي، زمن الوحدة السورية ــ المصرية، عهد الانفصال، وأخيراً عهد البعث.
ثمة حقائق كثيرة ومفاجئة يكشف عنها صاحب «الأحزاب السياسية في سورية، السرية والعلنية»، فهو يؤرخ لتاريخ يضج بالانقلابات والمؤامرات والحقائق الصادمة، لكن هذا الجزء العنفي والانقلابي يقابله وجه آخر أبيض، وخصوصاً حين يتطرق الكاتب إلى مقاومة الانتداب الفرنسي والدور الذي أداه المقاومون التاريخيون من أمثال سلطان باشا الأطرش وصالح العلي وإبراهيم هنانو.
هناك الكثير من الشخصيات السياسية التي تحدث عنها الكاتب ترتسم حولها علامات الاستفهام والشبهات، فالبعض من هؤلاء الذين صنعوا تاريخ سوريا «تتوجه إليهم التهم بالعمالة الأجنبية». وليس مفاجئاً أن يلحظ قارئ الكتاب أن سوريا التي تمرّ اليوم بمرحلة مفصلية حُكمت بعدد قليل من القيادات أقله منذ انقلاب حسني الزعيم (1949)، وصولاً إلى عهد البعث.
الكتاب ليس ضخماً مقارنة بالفترة التي يغطيها. مع ذلك، استطاع المؤلّف توفير مادة تاريخية مهمة، ودقيقة وتفصيلية، تحديداً حين يصل إلى الانتداب الفرنسي، إذ نجده يستخدم الوثائق والبيانات، ويوظفها على المستوى التوثيقي والتحليلي.
بعد الاستقلال عام 1946، بدا التاريخ السوري شديد التقلب بسبب الانقلابات التي استهلها حسني الزعيم (1889 ــــ 1915) التي نالت المرأة السورية في عهده حق الانتخاب والاقتراع. منذ عام 1949، دخلت سوريا في تاريخ آخر تكثر فيه المؤامرات ويزاحم الانقلابيون بعضهم بعضاً، وهذا يدفع المرء إلى طرح سؤال بديهي: كيف تُحكم سوريا؟ ولماذا حُكمت طوال المرحلة الماضية بالنار والدم؟ قد يكون تاريخ العرب مليئاً بالعنف وعدم الاستقرار، إلا أن للشام نكهة أخرى لا يوازيها أي بلد آخر. وليس أمراً بسيطاً حدوث خمسة انقلابات على مدى اثنين وعشرين سنة، منذ الانقلاب الأول مع الزعيم، مروراً بالانقلاب الثاني مع سامي الحناوي وبعده أديب الشيشكلي، وصولاً إلى الانقلاب على الوحدة السورية ـــ المصرية، فعهد
البعث.
يمكن وصف تاريخ سوريا الحديث بالتاريخ المتسارع والصدامي والديناميكي والانقلابي. وصول البعثيين إلى الحكم لم يكن أقل صخباً، فالصراع بين القيادة القطرية والقومية كان على أشده. حروب صغيرة ومتنقلة، أدت في نهاية المطاف إلى انشقاق البعث بين طرف عراقي وآخر سوري. يقسم صاحب «تاريخ اللاذقية» عهد البعث إلى ثلاثة أقسام: الأول، من آذار (مارس) 1963 حتى شباط (فبراير) 1966؛ والثاني من شباط (فبراير) 1966 حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 1970؛ والثالث من 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 لغاية اليوم أو ما يسمى الحركة التصحيحية التي قادها الأسد الأب حين كان وزيراً للدفاع ورئيس الأركان مصطفى طلاس.
لم يهتم الكاتب في التأريخ لعهد البعث كما اهتم في رصد الفترات السابقة، لكنّه كان من المهم الإضاءة بتفصيل على هذه الحقبة، إذ إنه يتوقف عند عام 1970. تعامل صاحب «هل العلويون شيعة؟» مع الفصل الأخير الخاص بحكم البعث ببعض الخفة، ولم يوليه اهتماماً كافياً مقارنة بالفصول الأخرى. وقد يقول قائل إن العديد من الباحثين كتبوا عن هذه الفترة المعاصرة، ومن بينهم باتريك سيل صاحب «الأسد ـــ الصراع على الشرق الأوسط»، وريشار لابييفير وطلال الأطرش مؤلفا كتاب «حين تستيقظ سورية» وغيرهما الكثير، إلّا أن هذا لا يمنع ضرورة تغطية أهم التحولات التي شهدتها سوريا كدولة/ محور قبل تفجّر حركة الاحتجاج الشعبية في آذار (مارس) 2011.
تساؤلات ترافق القارئ بعد أن يقلب الصفحة الأخيرة للكتاب: كيف تُحكم سوريا الواسعة جغرافياً والمتعددة دينياً وإثنياً؟ وكيف تُدار بلاد وصفت على الدوام بأنها ميزان المنطقة العربية؟ ولماذا تناقضت الآراء تجاه دمشق التي تُقدس حيناً كرافعة للقومية العربية وتؤبلس حيناً آخر في نظر الغرب والمحيط العربي؟
سوريا اليوم على مشارف متغيرات جديدة، ومن السهل إطلاق التكهنات والتوقعات والرهانات، لكن من الصعب الحديث عن النتائج المترتبة على مآلات الصراع في سوريا وعلى سوريا، بعدما أصبحت مسرحاً للتجاذب الدولي والإقليمي المحموم. قد يكون من الأجدى لنا الاستعانة بما قاله المفكر صادق جلال العظم حين قال: «السوريون يريدون استرداد الجمهورية».