القاهرة | نجا حلمي سالم من الموت في حصار بيروت عندما انضم إلى المقاومة الفلسطينة هناك، ومن جلطة المخ، وسرطان الرئة. لكنّه مات أول من أمس كمعظم المصريين بالمرض المعتاد (الفشل الكلوي). عرف السجن مناضلاً سياسياً من أبرز جيل حركة الطلبة المصريين في أوائل السبعينيات. كذلك نجا من سكاكين المتطرفين الذين حاربوا قصائده، وكفّروه. فضحهم في ديوانه «الشاعر والشيخ» الذي أهداه إلى ضحايا التطرف على مدى العصور من الحلاج والسهرودي وابن رشد إلى فرج فودة ونجيب محفوظ ونصر حامد أبوزيد. أصبح الديوان وثيقة يردّ بها سالم على محتكري الحقيقة المطلقة الذين يلاحقون المبدعين في كل مكان وزمان حتى أصبح هو نفسه هدفاً لهم.
حلمي سالم (1951 ـــ 2012) الذي غيّبه الموت يوم السبت دخل المستشفى قبل أسبوع لإجراء بعض التحليلات، وهناك احتجزه الأطباء. لكنّه أصرّ على الخروج؛ لأنّه كان مرتبطاً بأمسية شعرية. كتب تعهداً بتحمّله المسؤولية، وذهب إلى «حزب التجمع» اليساري، ليلقي قصائد ديوانه الأخير «معجزة التنفس». الشعر بالنسبة إلى حلمي كان «علاجاً» أفضل من «ألف جلسة كيماوي» كما قال في تلك الأمسية. وهذا ما جرى أيضاً عندما أصيب بجلطة المخ، كان نصيبها ديوانه «مديح جلطة المخ» الذي كتبه أثناء علاجه، وكان سبباً ـــ كما قال ـــ في شفائه قبل أن يكمل العلاج. صاحب «سيرة بيروت» الذي انتمى إلى جيل السبعينيات، هو أكثر أبناء جيله غزارة، ومغامرة أيضاً. كانت أشعاره «حياته» لكنّها مكتوبة في قصيدة، هكذا يمكن أن نقرأ عن رحلاته، ومرضه، وحروبه ومعاركه الفكرية، ونضالاته وأصدقائه، وتجاربه العاطفية. سيرته مبثوثة في كل القصائد: كتب عن حصار بيروت (ديوانه «سيرة بيروت») وعن رحلته الباريسية (الغرام المسلح) وعن متابعاته للانتفاضة الفلسطينية (تجليات الحجر الكريم) وعن تكفيره بعد قصيدته «شرفة ليلى مراد» والحكم بسحب «جائزة التفوق» منه بعد الدعوى التي رفعها عليه الشيخ يوسف البدري (الشاعر والشيخ). حتى تجربة الثورة المصرية كتب عنها في ديوانه الأخير «أرفع رأسك عالية». ثم أتبعه بديوانين لم ينشرا بعد هما «حديقة الحيوانات»، و«معجزة التنفس» الذي يتماس أيضاً مع تجربة مرضه الأخير.
عبر 21 ديواناً، كتب كل ما مر به. لذا قد لا نحتاج إلى معرفة الكثير عن سيرته الذاتية التي حرص قبل أشهر من رحيله على تسجيلها في نص بديع حمل عنواناً مبدئياً هو «الراهب: الأصل والفصل». والراهب هي قريته التي ولد فيها وتقع في محافظة الفيوم (شمالي القاهرة)، وقد سمّيت ذلك لأنّها تحتضن مقام الشيخ علي الراهبي، أحد معالم القرية. هناك ولد حلمي ونشأ لأب يعمل تاجر موالح، وأم ربة بيت. وكسائر أطفال القرى، التحق حلمي بكتاب الشيخة أمينة قبل دخول المدرسة الابتدائية، ليتعلم القرآن واللغة العربية. كانت الشيخة أمينة كفيفة، لكنها كانت تميّز الولد المخطئ في قراءة القرآن بحاسة السمع الاستثنائية عندها. كانت تحدد مكانه بين الأولاد الجالسين أمامها على الحصيرة، فتنقره على رأسه بقضيب خيزران طويل، أو تستدعيه لتفرك أذنه بحصوة خشنة بين أصابعها. وكانت الشيخة أمينة تأسيساً متيناً له في القرآن واللغة العربية والنطق السليم. وقد ظلت في خيال حلمي وذاكرته وشعره أيضاً!
في تلك الأيام، التقى صديق طفولته محمد ابو النور ابن ناظر المدرسة الذي كانت مكتبة والده مدخلهما إلى العالم، وكان الولع بالأدب الروسي، وتحديداً روايات: غوغول وتولوستوي ودوستويفسكي وتشيخوف وغوركي، وبعض أشعار بوشكين. وهذا الغرام كان البذور الأولى التي شكلت ميله لاحقاً إلى الفكر الاشتراكي واليساري. كانت حياة القرية التي عرف فيها الموالد الشعبية، وحضرات المتصوفة، وأغنيات العمّال مدخله إلى الشعر. وربما هي التي أكسبته لغته، إذ يكتبُ خارج المُكْتَسبات، أو يرفض أن يبقى أسير الذوق العام. اللغة التي يكتب بها تمتح من فائض اللغة، بما يعنيه من كلام عام سائد ومعروف، أي باستعمال الكلام الدَّارِج، لكن ليس بمعنى ما هو مُبْتذَل، أو «مطروح في الطريق» (بتعبير الجاحظ). عندما التحق بجامعة القاهرة، اختار دراسة الصحافة، وممارسة العمل السياسي المنظم. شارك في تظاهرات الطلبة، وانضم لاحقاً إلى «حزب التجمع» حتى رأَسَ تحرير مجلة «أدب ونقد» الثقافية التي كانت تصدر عنه. وكانت البداية ديواناً مشتركاً مع صديقه الشاعر رفعت سلام بعنوان «الغربة والانتظار» (1972)، تلاه ديوانه الأول «حبيبتي مزروعة في دماء الأرض» (1974). ولأن سنوات السبعينيات المصرية كان فترة كساد ثقافي، أسس مع عدد من أصدقائه الشعراء جماعة «إضاءة» (1977) التي ضمت حسن طلب، جمال القصاص، رفعت سلام، وأمجد ريان، وأصدروا مجلة تحمل اسم الجماعة احتوى عددها الأول على مانفيستو الحركة التي كانت أول خروج قوي على قصيدة التفعيلة التي اختط ريادتها في مصر شعراء مهمون كصلاح عبد الصبور، وعبد المعطي حجازي، إبراهيم أبو سنة. رغم هذه الثورية، إلا أنّ حلمي نفسه كان أول من خرج عليها. لم يكتب فقط قصيدة «الوردة» في مقابل «قصيدة البندقية»، فقصيدته تضمنت كل ذلك. لم تكن قصيدة مشغولة بخصوصيتها الذاتية وتفاصيلها الشخصية اليومية داخل غرفة مغلقة، بل شُغلت أيضاً بالجمهور. وربما لهذا كان صاحب «فقه اللذة» أكثر شعراء جيله تجريباً، حسب تعبير أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه «أحفاد شوقي».
لاحقاً، راجع حلمي نفسه في كتابه «الحداثة أخت التسامح»، وكتب بحبّ عن الأجيال التي سبقته وكانت حركة «إضاءة» نقيضة لهم. رأى أنّ خلط السياسي بالشعري ليس عيباً، بل سمة أرادها؛ إذ لا يعني أن ينفصل الشعر الحداثي عن حياة مجتمعه ولا عن الخراب الذي يعيش فيه، ولا بد من المزاوجة جيداً بين الشعري والسياسي كي يعبّر الشعر عن همه السياسي والاجتماعي في إطار الفن الحداثي. حاول ألا تقتصر تجربته على الجانب الرومنطيقي ولا على الجانب الميتافيزيقي. وكان يسعى دوماً إلى التوفيق بين الفيزيقي والميتافيزيقي، بين اليومي والخالد، بين العيني والمجازي، وبين كل هذه المتناقضات جميعاً. كانت تجربته كلها خروج على ذاته قبل أن تكون خروجاً على الآخرين، حالما يكتشف أسلوباً، يسارع في البحث عن آخر معتبراً ذلك عمل الشعر. وربما لهذا لم يكن تعنيه غزارة الإنتاج لأنه قد يكتب مئة قصيدة وينشرها من أجل قصيدة واحدة. كان يقول: «أنا أكتب حياتي وعيني باستمرار على الشعر. أعتبر أنّ غزارتي ميزة وإن كان البعض يرى فيها بعض العيوب. لكن الميزة الكبرى أنني أحبّ الشعر والتجريب، وأكتب حياتي وتجاربي الكثيرة الغنية والخصبة التي بعضها شعري».