القدس المحتلة | في ندوة «جدلية تحرير العقل والمكان» التي عقدها «مركز يبوس الثقافي» أخيراً ضمن «مهرجان القدس 2012»، طُرحت أسئلة التحرر العقلي والمعرفي واحتمالات الانعتاق من قيد المكان في غمرة استحكام حلقات الهيمنة والاطباق على منافذ الحياة في مدينة القدس خصوصاً وفلسطين عموماً. افتتح الباحث والكاتب خليل نخلة مداخلته التي حملت عنوان الندوة بسؤال حول كيفية تحويل السياسات التربوية الرسمية إلى فكر تنموي- تحرري- مقاوم، إعتماداً على مواردنا وطاقاتنا الذاتية.
صاحب الكتاب المثير للجدل «فلسطين، وطن للبيع» مهّد للاجابة على هذا السؤال بالتأكيد على أنّنا منذ منتصف القرن الماضي ونحن شهود على عملية ممنهجة تهدف إلى إعادة هندسة وعينا الوطني وإستحداث خطاب مهيمن لتزييف الوعي الوطني، والقبول بتذويت القهر والهزيمة والوضع الكولونيالي والفصل العنصري والطبقي كحالة طبيعية.
هذه العملية في أساسها تعود ــ بحسب نخلة ــ إلى ثلاثة عوامل رئيسة هي: السياسات الثقافية - التربوية التي يفرضها المستعمِر، والسياسات الثقافية - التربوية التي يترجمها وينفذها المستعمَر (أي نحن)، وهيمنة مصادر الدعم الخارجي وآلياته وتسلطها على توجهات هذه السياسات. ويعتمد مدى نجاح هذه العملية على تفاعلنا معها وعلى تصميمنا على مجابهتها والإصرار على بدائل وطنية لها.
لكن، هل نمتلك مقومات صوغ البدائل الوطنية؟ وهل نستطيع تحديد الأدوار؟ هل نحن جاهزون فعلاً لهذه المهمة؟ يقترح نخلة في هذا الصدد أن نطور إدراكنا بشكل واضح لعملية هندسة المناهج المدرسية باعتبارها مشروعاً إستراتيجياً وطنياً بإمتياز من خلال إثارة أسئلة من نوع: من يحدد الأهداف العامة للفعل التربوي؟ ولماذا؟ وأي تثقيف نبتغيه لأجيالنا القادمة؟
وبما أنّنا نحدد الأهداف التي نبتغي تحقيقها وفقاً للقراءة العلمية للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبعد الاحاطة بمختلف المتغيرات التي يمر بها المجتمع، فاننا ـــ نحن الفلسطينيين ــ وفقاً لنخلة قد «حددنا الأهداف تحت سقف عملية أوسلو وبقبول ضوابطها الناظمة، وسعينا لتوفير دعم خارجي لتنفيذ هذه العملية، وقبلنا بمحدداته، وإستدخلنا إطار أوسلو وتعريفاته المتضمنة فيه، لمن هو الفلسطيني، وما هي فلسطين». بناء على هذه القراءة وهذا الفهم، يدفعنا ذلك الى «أن نعمل لإعادة الهندسة الفكرية الثقافية من خلال إستحداث دروس تركز على تعريف من هو «الإنسان الفلسطيني» الذي يتكلم عنه المنهاج، والتركيز على أن «الفلسطيني» المقيم اليوم في الضفة الغربية، وضمنها القدس، وقطاع غزة هو جزء ضئيل من كلية «الشعب الفلسطيني» المتواجد في المهاجر، وتحديد علاقة الفلسطيني تحت الإحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة (1967) مع الفلسطيني «الآخر» في الجزء المحتل 1948، وأماكن اللجوء، وأهمية وكيفية تنمية هذه العلاقة، وتحديد طبيعة الأسس القاعدية لهذه العلاقة، وتحديد علاقة الإنسان الفلسطيني مع «الآخر» الصهيوني- الإسرائيلي».
ان هذا الحفر الذي يدعو اليه نخلة يستدعي من ضمن ما يستدعي «ضرورة عرض وتحليل إتفاقيات أوسلو ونتائجها، وإسقاطاتها على تعريف «الإنسان الفلسطيني» و«الوطن الفلسطيني» في المرحلة الراهنة. وإستحداث دروس تركز على مفهوم «تنمية» المجتمع الفلسطيني تحت الإحتلال والمعتمدة كلياً على الدعم المالي الخارجي».
يخلص نخلة الى أنّه «لا يمكن تحرير المكان من دون تحرير الوعي والعقل والفكر، بشكل عام. وفي الحالة الإستعمارية التي نخضع تحتها، بشكل خاص، فانه لا بد أن نناقش ونوضح رؤيتنا إلى تحرير المكان ورؤيتنا لتحرير العقل والفكر. ودور الفعل التربوي في توضيح هذه الرؤى».
أما عبد الرحيم الشيخ، رئيس دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في «جامعة بيرزيت»، فقد دعا في مداخلة له بعنوان «نزع القداسة وآفاق الانعتاق: موقع القدس في التنمية الثقافية الفلسطينية» إلى ضرورة تحرير العقل الفلسطيني من الانزلاق في دوامات الصراع الديني حول القدس، مؤكداً أن الصراع على القدس، كجزء من فلسطين الميثاقية (التاريخية)، هو صراع بين الحركة الوطنية الفلسطينية والقومية العربية وما ناصرهما من حركات التحرر العالمي ضد الحركة الصهيونية التي أنتجت بدورها دولة الاستعمار الاستيطاني (إسرائيل) عبر تحالف تاريخي مع حركات الاستعمار الغربي الممركزة أوروبياً.
ومساهمة في حل جدلية تحرير العقل والمكان الفلسطينيين نحو أفق الانعتاق، أكد الشيخ على ضرورة إعادة مفهمة طبيعة الصراع بين الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الاستعمارية الصهيونية ابتداءً من مظلمة «النكبة الفلسطينية المستمرة منذ العام 1948» لا مع الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1967 فقد بهدف الحيلولة دون «صهينة حل المسألة الفلسطينية» بعدما تمَّت صهينة طبيعتها. وحتى يتم ذلك، يرى الشيخ أنّه لا بد من إعادة مفهمة التنمية ضمن خصوصية الشرط الاستعماري الفلسطيني بكل مكوناتها: الجغرافية، والديموغرافية، والثقافية كما حددها الميثاق الوطني الفلسطيني عام 1968 وبشكل يضمن تصحيح الخطأ التاريخي والخطيئة الإنسانية التي ألمت بالفلسطينيين جرَّاء نكبة العام 1948 (كسر الحداثة الفلسطينية باحتلال فلسطين، والحيلولة دون إقامة الدولة، وتشريد ثلثي الشعب).
وبعد استعراض تاريخي لتحوُّلات الحركة الوطنية الفلسطينية، بكل أشكالها السياسية والعسكرية والمدنية، وخاصة بين العام 1974 وإقامة السلطة الفلسطينية عام 1994 التي نشأ عنها التنازل عن كثير من الحقوق السياسية الفلسطينية و«تحويل القضية الفلسطينية إلى مجاز» وحضور فني وإنساني في السياقات العالمية، أكد الشيخ على أن ثقافة المقاومة (بكافة أشكالها) هي شرط أساس ليس للتنمية الميثاقية فحسب، بل وعملية الانعتاق على مستوى الأرض والإنسان والحكاية التاريخية للفلسطينيين. وفي هذا السياق، استعرض الشيخ ثلاثة نماذج للمقاومة جرَّبها الفلسطينيون، ولا يزالون، في مقاومة دولة الاستعمار الاستيطاني (إسرائيل) تم استقاؤها من الإطار الميثاقي (الذي يضمن أن تكون المقاومة الصحيحة بثقافة صحيحة)، وهي نموذج المقاومة المسلحة، ونموذج المقاومة الثقافية، ونموذج المقاومة الشعبية والعالمية.
وقد أكد الشيخ على أن التكامل بين هذه الخيارات، وعدم استبعاد أي منها، من شأنه استثمار كافة طاقات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وحركات التحرر العالمي في مواجهة دولة الاستعمار الاستيطاني (إسرائيل)، لأن هذه الأشكال للمقاومة، مجتمعة، من شأنها أن تبرز وتعزز أهم المبررات الأخلاقية والقانونية التي تستخدمها حملات مقاومة التطبيع مع إسرائيل ومقاطعتها على المستوى المحلي والعربي والعالمي، وهي: رفض إسرائيل الاعتراف بالمسؤولية عن نكبة الفلسطينيين في العام 1948، وما شملته من تطهير عرقي خلق قضية اللاجئين الفلسطينيين، وإنكارها للحقوق المكفولة للاجئين في القانون الدولي، وأهمها حق العودة؛ تواصل الاحتلال العسكري للأراضي الفلسطينية؛ استمرار التمييز العنصري الشامل ضد فلسطينيي فلسطين المحتلة عام 1948 والتفرقة العنصرية الناجمة عنه، على نحو يداني نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا- أي حقوق الفلسطينيين القاطنين، كسكان أصليين، في أراضي فلسطين المحتلة في العام 1948. وقد ختم الشيخ مداخلته باستنتاج عام، هو أنّ أي مقاومة لا تسند إلى الثقافة الميثاقية، ولا تعزز التنمية الميثاقية، ستكون تنمية للكساد السياسي الذي يجتاح القضية الفلسطينية وأصاب مشاريع الحركة الوطنية الفلسطينية منذ عام 1974، وتعمق منذ اتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية في عام 1994. وعليه، فإن أي تنمية فلسطينية مستقبلية يجب أن تستند الى خيارات المقاومة التي تُعد بحق «أنسنة للتاريخ» من باب إتاحة المجال أمام الفلسطينيين لممارسة إنسانيتهم عبر خياراتهم المشروعة لأشكال المقاومة التي تمكنهم من الدفاع عن هذه الإنسانية».