القاهرة| للوهلة الأولى، يبدو برنامج الداعية معز مسعود «رحلة اليقين» (cbc) استكمالاً لبرنامج شهير كان يقدمه الطبيب والكاتب مصطفى محمود على التلفزيون المصري بعنوان «العلم والإيمان». كما كان البرنامج الشهير الذي حظي بأعلى نسبة مشاهدة في مصر الثمانينيات قائماً على التصالح بين العلم والدين، أو بمعنى أدق «استخدام العلم» لتأكيد «اليقين الديني»، ينطلق البرنامج الجديد للداعية الشاب من الأرضية ذاتها.
حتى إنّ مقدمة تتر البرنامج تتشابه مع القديمة من حيث تتابع مشاهد الطبيعة والكائنات الحية على خلفية موسيقية هادئة وموحية، ولو زاد الجديد عن القديم بإضافة لقطات أكثر «علمية»، فثمة طائرات تنطلق مغادرة الأرض، وأقراص أدوية متنوعة وزحام بشري متقاطع في شوارع مدن حديثة.
لكن برنامج معز مسعود، سرعان ما يغادر أرضية الفكرة المشتركة ويبدأ في الانفصال عن القديم منذ الحلقات الأولى. هو لا يتناول «العلم» بصفة عامة ولا تجارب العلماء على عمومياتها. كما يتضح من اسم البرنامج، فإنّ الداعية الشاب مهتمّ بقضية اليقين الديني، أو وجود الخالق، من خلال مناقشة أفكار «كبار الملحدين» كما يسميهم البرنامج، بدءاً من الألماني نيتشه، مروراً ـــ طبعاً ـــ بداروين، وصولاً إلى ريتشارد دوكنز. وبالطبع، فإنه يناقشها من أجل «الرد عليها». هو لا يختلف بهدفه عن ثقافة «الرد على الشبهات» الرائجة في المواقع الدينية. الفارق هنا أنّه يقدم «الرد» في صيغة عصرية، وباحترام نسبي للأفكار العلمية والفلسفية، والأهم باحترام غريزة الشك البشرية، والإقرار بضرورة مناقشة «الهواجس» العقائدية. لا شك في أنّ تلك القضية الوجودية الأزلية (وجود الخالق) لا يمكن أن يكون تناولها «نقاشاً» بالمعنى المعروف أو العلمي، إذ إنّها تتمحور أساساً حول اختلاف «العلم» ومنهجه عن «الدين» ومنهاجه. وهو ما يتضح من عنوان البرنامج (رحلة اليقين). أي أنّ المشاهد لا يناقش اليقين بقدر ما يتعرف إلى رحلة الداعية الشاب إليه، فضلاً عن أنّ تلك الرحلة لا تزيد على حوالى ربع ساعة في كل حلقة، ما لا يتناسب مع تناول قضية قديمة قدم الأزل. ومن ثم، فإن الحلقات تتحول إلى تناول بعض حجج «الملحدين» ثم الرد عليها، سواء من قبل الداعية نفسه أو بعض ضيوفه الذين تم انتقاؤهم بعناية ليناسبوا جمهور البرنامج الشاب، ومنهم الإعلامي الشاب وذو الجماهيرية أحمد العسيلي، ويسري فودة أحد أبرز المؤيدين للثورة من أهل الإعلام، والأكاديمي الشاب ذو الميول الإسلامية المعتز بالله عبد الفتاح، وأخيراً لتكتمل الصورة «العصرية»، يستضيف البريطاني المسلم عبد الحكيم وينتر أستاذ الدراسات الإسلامية في «جامعة كامبريدج». يتحدث معظم هؤلاء عن تجاربهم الروحية وعلاقتهم بالقرآن. أما دور «الرد على الإلحاد»، فيتولاه بنفسه معز مسعود الذي يفسّر انتشار «أزمة اليقين» في انتشار من يسيئون إلى الدين باسم الدين (وهو ما يعني من دون تصريح التيار الإسلامي السياسي). ويلخّص «ضعف اليقين» في ثلاث مراحل: الغفلة (أي الإيمان غير المستقر بوجود الله)، ثم اليقين مع التشكك في إمكان تطبيق الدين، وأخيراً التشكك في الكتب السماوية نفسها، أو التشكك في نزولها من عند الخالق. انطلاقاً مما سبق، يتناول الداعية الشاب بصورة مجتزئة تماماً أفكار الإلحاد متمثلة في بعض أهم «رموزه» كما يقول، لكنه من حيث المبدأ يخلط بين علماء وفلاسفة مثل داروين ونيتشه حيث لم يكن الإلحاد بحد ذاته قضيتهم، بل جاء ذلك في إطار التجريب العلمي أو البحث الفلسفي، وبين شخصيات عامة جعلت نفي فكرة الخالق قضيتها طوال حياتها، على غرار دوكنز صاحب كتاب «وهم الإله» أو السير أنطوني فلو الذي تراجع عن الإلحاد في أعوامه الأخيرة، لكنّه ظل على رفضه للأديان.
هذا الخلط بين النوعين أخذ البرنامج إلى نتائج غالباً ما فَسَّرت «الإلحاد» بأنّه إما نتيجة مشكلات نفسية «كفقد داروين ابنته الصغيرة»، أو أنه يؤدي إلى مشكلات نفسية «كالجنون الذي لحق بنيتشه أواخر حياته». هذا التفسير «النفسي» لموقف العلماء من قضية الإله طغى في الحقيقة على الجانب العلمي ـــ بل المعلوماتي ـــ من القضية. مثلاً، وضع داروين أسس نظرية التطور (النشوء والارتقاء) وهو في السابعة والعشرين من عمره عام 1838، قبل زواجه وبالتالي قبل موت ابنته آن، علماً بأنّه أنجب من زوجته إيما عشرة أطفال. ووفقاً لكتاب «صندوق آني» للبريطانية رندال كينز، فإن الاهتمام الذي أثاره كتابه «أصل الأنواع» (1859) قد خفف كثيراً من حزنه على وفاة ابنته! كل ذلك بالطبع بعيداً عن النظرية نفسها التي أثبت نجاحها العلم الحديث، ما دفع الفاتيكان في النهاية إلى التصالح معها وفق مفهوم «الرب خلق الخلية الأولى». وهنا نعود إلى التمايز الإيجابي لمصلحة برنامج مسعود الذي لم يكرر الأخطاء الشائعة من قبيل «النظرية تقول إنّ الإنسان أصله قرد»، ولم يدّع الداعية امتلاكه الأدوات العلمية لمناقشة النظرية. كما أنه كان أميناً مع مشاهده عندما تناول مسألة عدم تصادم داروين في كتابه مباشرة مع أصول الإيمان المسيحي، فعزا الداعية موقف داروين إلى الضغوط الاجتماعية وليس إلى تشككه في أفكاره الخاصة. هذا التفسير «المنطقي» النادر في عالم البرامج الدينية هو أبرز ما يميز البرنامج عن غيره، فضلاً عن تقديمه للأفكار المضادة بدلاً من تجاهلها في عالم ينفتح كل يوم.

«رحلة اليقين»: 19:00 على cbc