«إذا كنت تركت مصر، فإنّ مصر لم تتركني. أحياناً، أعتقد أنّ ظلي وحده من رحل، بينما ظللت هناك، وحيداً، هائماً، كما في شبابي». يقول سارد «هذا البلد الذي يشبهك» (دار ستوك) لتوبي ناثان (1948). يبدو زهار بطل الرواية، ظلاً للكاتب المتحدر من عائلة يهودية، ترعرع في قاهرة الأربعينيات، قبل أن يترك بلده خلال الهجرات الواسعة لليهود بعد صعود جمال عبد الناصر إلى الحكم. إنه ليس ظلاً فقط لطفولة مصرية، يتحدث عنها الكاتب في حواراته بالكثير من الحنين، بل خصوصاً لعمله المعرفي والبحثي، في التحليل- النفسي الإثني، المشغول بالفكر السحري والغيبي لدى المجتمعات.

ينطلق ناثان من هذه المعتقدات الغامضة، والضاربة في القدم، ليسرد قصة بطله الذي رضع هذه المعتقدات من والدته. في «هذا البلد الذي يشبهك»، يَنْشَدُّ الكاتب إلى هذه المعتقدات السحرية، لدى الثقافة اليهودية والمسلمة والوثنية، المتغلغلة في مجتمعات شمال أفريقيا والشرق الأوسط. في 1925، تتزوج إستير اليهودية النصف مجنونة، والعاشقة للسحر بـ «مُوتي» الأعمى بعد قصة عشق محموم. يعجز الزوجان عن الحصول على مولود، فتلجأ إستير إلى كل أنواع السحر، أولاً لدى السحرة اليهود، قبل اللجوء إلى المسلمين، ثم إلى طقوس وثنية قديمة، لتضع أخيراً الابن «زهار». يقول سارد الرواية إنه ترعرع بين موسيقى شيطانية، ولغة مليئة بالصور، ولحم الأفاعي والتعويذات. وعقاباً لمعصية الأم، يسخر الحاخام من الأم، ويحمي الابن بتعويذة، ويقول إنّه لتكون فاعلة لا يجب أن يفترق زهار عن أخته في الرضاعة «مصرية» المتحدرة من عائلة مسلمة. هذا المغناطيس الذي يجمع بين الشخصيتين، يخلق مصيرهما، ويتبع تطورات المجتمع المصري في سنوات والثلاثينيات إلى الخمسينيات والثورة ورحيل يهود مصر. في كل فصل من الرواية، يحكي ناثان عن شارع من شوارع القاهرة، وصولاً إلى الإسكندرية، وعن قصص «القاع». يحكي قصص الأوساط الشعبية، بين الحانات، والراقصات، وبين الطوائف الدينية المسلمة والقبطية واليهودية، وهي الطائفة التي كان يبلغ عدد أفرادها مئة ألف ولم يتبق منها الآن إلا تسعة أفراد. يحكي أيضاً قصص التحول الاجتماعي في مصر، والملك «فاروق المصاب بهوس السرقة»، وتحول شخصيات يهودية إلى الإسلام، وجنوحها نحو العنف الذي انطلق مع جماعة الإخوان المسلمين، على حد قول الكاتب في حوارات صحافية. ناثان الذي عمل كمستشار ثقافي للسفارة الفرنسية في تل أبيب، يظلّ موقفه من إسرائيل ملغزاً يقترب من موقف «الدبلوماسي». رغم قربه من اليسار، ومواقفه الحداثية والمناضلة كتأسيس عيادة للتحليل النفسي لأبناء المهاجرين الذين يصابون بصدمة تغيّر اللغة والعادات في بلد الاستقبال، إلا أنّ مواقفه السياسية تجاه إسرائيل تظل ملتبسة. كتب رواية عن حاييم أرلوزوروف أب اليسار الإسرائيلي الذي دعا إلى موطن للشعبين «الفلسطيني واليهودي»، فيما لم يدن يوماً مواقف إسرائيل. لكن الرواية تظل أولاً عن الحنين إلى أرض النشأة. يبدو حنينه ورغبته في إعادة بناء ذاكرة الممارسات السحرية والطوطمية في المجتمعات حاضرين في أعماله الأكاديمية والتخيلية. هو ينحدر من عائلة كان أحد أجدادها الحاخام الأكبر لمصر. أرادت أمّ الكاتب أن تسمّي ابنها باسمه، كتحقيق لمنام. لكن بداية التوترات بين المسلمين واليهود في مصر جعلت والده يسمّيه عيد. وحين حصل على الجنسية الفرنسية، رفضت الإدارة الفرنسية اسمه «توبي» فاختار تيوفيل ومعناه محبّ الله. وفي فقدان الاسم الأول، وجد عيد أو تيوفيل أو توبي نفسه هائماً بين اللغات والهويات. وربما لهذا يحمل بطله اسم زهار زهار. يجعل من كلمة جوهر (معنى زهار) مضاعفة في الاسم. كأنه يرسخ الجوهر الأول للإنسان كما يؤمن به. جوهر ينتصر للأرواح والغيبيات، الخارج عن صرامة التدين. وربما هو هذا ما جعله ينحت لبطله شخصية خارجة عن المألوف، منبوذة من طائفتها، كما من الطوائف الأخرى.