رحلت تشافيلا فارغاس (1919) الأحد الماضي. في قارة لاتينية مليئة بالثوّار والحروب والكتّاب الكبار والانقلابات العسكرية، أشعلت المغنية المكسيكية ثورتها الخاصة، بصوتها العنيد أحياناً، والدافئ أحياناً أخرى، والرابض كثيراً على حافة البكاء. ديفا التي لا تفارق الابتسامة وجهها، أنهت 93 عاماً من حياة صاخبة في أحد مستشفيات مدينة كويرنافاكا جنوب العاصمة.
ثارت على تقاليد الرجال الموسيقية، ووضعت قدميها في حقل من ألغام نوعٍ موسيقيّ ظل طويلاً حكراً على الرجال: الـ «رانتشيرا». في ثلاثينيات القرن الماضي، وعندما كانت في الـ 14 من عمرها، قدمت من موطنها الأصلي كوستاريكا إلى المكسيك بعد طلاق والديها اللذين لم يحبّاها كما تقول في أحد حواراتها.
كانت معدمة وضعيفة: مراهقة وحيدة في بلد تنهشه القلاقل، لكنّها لم تختر أن تكون من المستضعفين. حتى في الطفولة، كانت ترفض أن تلعب ما تلعبه البنات، وكانت ألعابها ذكورية: مسدسات، وحروب ستروضها لاجتياز أشد المعارك في ما بعد. اختارت اسم شهرة بدل اسمها الأصلي إيزابيل فارغاس ليسانو، ثارت على التقاليد والمجتمع. غنت في الشوارع والأماكن الأكثر هامشيّة، رغبةً منها في القول «إنني موجودة في هذا الوسط الموسيقي الذي يحتكره الذكور». كانت من النساء السباقات إلى ارتداء البنطلون، واعتمرت قبعات رجالية. دخنت بشراهة، وشربت حتى الثمالة، وتشاجرت، وفرضت نفسها صوتاً قوياً. ببحته المختنقة والحزينة، أسكر صوتها الكثير من الرؤوس أكثر مما تفعل «التيكيلا» مشروب المكسيك الوطني. انطلاق تجربتها من الشوارع، دفع السينمائي الإسباني بيدرو ألمودوفار إلى مقارنتها بديفا أخرى، هي المغنية الفرنسية إديث بياف. رغم ذلك، ستعرف فارغاس شهرة كبيرة بعد سنوات من التشرّد والضياع.
أسطورة أميركا اللاتينية التي فارقت الحياة بعد أسبوع من محاولة لعلاجها من ذات الرئة، غنت في شبابها إلى جانب الكبار. شراكتها الفنية الأولى كانت مع أحد أبرز قامات موسيقى الـ «رانتشيرا» في القارة: خوسيه ألفريدو خيمنيز. حمل ألبومها الأول عنوان «الليلة البوهيمية» (1961)... بوهيميّةٌ طبعت حياتها حتى آخر نفس. مع هذه الأسطوانة انطلقت أسطورتها التي لم تقتصر على مسارح الغناء، بل استمرت إلى حياة صاخبة، أعلنت فيها عن مثليتها. تقول عن ميولها الجنسية: «اضطررت إلى أن أحارب من أجل الاعتراف بي... من أجل أن أكون كما أنا. فخورة لأنني أتحمّل مثليّتي. اضطررت لمواجهة المجتمع والكنيسة التي تقول إن المثليين مدانون! هذا عبث!».
طيلة سنوات الستينيات وبداية السبعينيات، كانت نجمة الموسيقى اللاتينية بلا منازع. صادقت أشهر الكتاب والفنانين، مثل خوان رولفو، وفريدا كاهلو، ودييغو ريفيرا. الأخيران اعتبراها «ملهمتهما». كانت تسحر الجميع باستهتارها، وقدرتها الخارقة على التصلب في مواقفها. إنها امرأة تحررت من كل العُقَد والقيود التي كانت تكبل المرأة اللاتينية في ذلك الوقت.
غنّت عدداً من الروائع الموسيقية، أشهرها «فكّر فيّ» التي تقول فيها: «إذا أحسستَ وجعاً عميقاً/ فكّر فيّ/ إذا أردت البكاء فكّر فيّ/ ها أنت ترى أنني أقدّس صورتك الربانية/ فَمُكَ الصغير، الطفولي جداً/ عَلَّمَني الخطيئة». تدعو في أغنية أخرى هي «في الطريق الأخير» الحبيب إلى تقاسم قنينة أخيرة قبل الرحيل. هنا، يبدو صوتها باكياً... يتوسل، مرتبكاً، كأن صاحبته في حالة عشق حقيقية، أو كأن أمامها حبيباً سيصفق الباب في وجهها إلى الأبد. هنا بالضبط قوة صوتها. شجنه العميق. كأننا أمام جرح أبدي لا يندمل. ترتعش في ميلودراما، وتنتفض حواسها إلى جانب صوت القيثار. المغني الإسباني خواكين سابينا يشرح هذه الحالة بالقول إن «المرارة حين تغنيها تشافيلا فارغاس لا تبقى مرارة».
لم تسلم النجمة من التحولات التي عرفتها القارة اللاتينية. شيئاً فشيئاً، أفَلَ نجمها أمام موسيقى جديدة وأصوات أخرى. غاصت فارغاس التي يصفها أخوها بـ«امرأة 45 ألف لتر من التيكيلا» في إدمان الكحول، واعتزلت الموسيقى والغناء. أفلام بيدرو ألمودفار ــ الذي يعتبرها هو الآخر «ملهمته» ــ كانت منقذتها في سنوات التسعينيات، وخصوصاً فيلم «زهرةُ سِرّي». أعاد هذا الشريط موسيقى المغنية البارزة إلى الأضواء. هكذا، رجعت إلى سماء الموسيقى، وأضاءت العواصم العالمية. راكمت الأغاني الجديدة والحفلات ولم تتوقف عن إصدار الأغاني والألبومات حتى أيام قليلة قبل وفاتها.
رحلتها الأخيرة كانت إلى مدريد. هناك قدمت عملها الأخير «لا لونا غراندي» (القمر الممتلئ)، وأهدته إلى شاعر إسبانيا الأبرز لوركا. قدمت أيضاً سيرتها الذاتية «أحتاج حياتين»، كأنها لم تكن قانعة بحياة واحدة. حسب الناشر، سنجد في هذا الكتاب كل شيء عن المرأة التي عاشت قرابة القرن: «حسّها الساخر، ملائكتها وشياطينها، هزائمها وانتصاراتها». هزائم كثيرة وقصص حب فاشلة، ومثلية جلبت لها الكثير من الانتقادات. كانت هناك أيضاً انتصارات في حياتها: تحقيقها حلم الطفولة بأن تصبح نجمة موسيقى، وتمرّدها، وفرضها أسلوبها الخاص في زمن كانت النساء فيه خاضعات لذكورية مطلقة. قبل أن تخذلها رئتاها اللتان أخرجتا آلاف الأغاني، طلبت تشافيلا فارغاس من أطبائها أن لا يدخلوها في مرحلة التنفس الاصطناعي... كأن نَفَسَها لا يعنيها إذا لم يتحول إلى موسيقى!