لندن | مع أنّ أعمال نرمين همّام ليست سياسية، إلا أنّ وقائع الأحداث اليومية هي التي تدفع المتلقي إلى اعتقاد ذلك. حينَ نتوقف أمام أعمال معرضها الفردي الأول في لندن الذي تستضيفه «قاعة موزاييك» بالتعاون مع «غاليري روز عيسى»، يسترعي انتباهنا الوضع المصري تحت سلطة العسكر والتطورات على أرض الواقع خلال العام الأول من «ثورة 25 يناير».
في «القاهرة.... سنة أولى»، نكتشف أنّ همّام (1967) تعتمد على المراوحة بين عالمين: أحدهما مثير تتخلله المغامرة والرعب يقع في مصر، وآخر هادئ ومسالم ورومانسي مفروش بالزهور والمناظر الطبيعية يقع في اليابان. هناك شعور بأنّ الأوضاع في مصر تدعو همّام إلى السفر في مخيلتها إلى مناطق وعوالم أكثر سلماً، لتختار الصورة الرومانسية لليابان كمثال على ذلك. أمام هذه الصور، ندخل في أعماق الفنانة التي تحاول الهروب من الواقع السياسي في بلدها إلى بلد آخر، قد يكون حتى متخيّلاً، بثقافة أخرى وعوالم بعيدة عن واقعها اليومي. الجنود المصريون هم الواقع، والخلفية الرومانسية لليابان هي الجزء المتخيّل. تعتمد نرمين على اللوحات اليابانية القديمة في تركيب صور أفراد الجيش والشرطة العسكرية. أعمال بألوان فاتحة، تتخللها ألوان أخرى داكنة لصور رجال الجيش. لا تنوي همام أن تحدث تصادماً بين الحضارتين أو البلدين، بل أن تصنع تناغماً موسيقياً في تركيب أعمالها التي تعتمد على صور مركّبة، ومزج بين الرسم والتصوير الرقمي.
ينقسم معرض همام إلى مجموعتين: الأولى تحمل عنوان «أوبيكا»، تضم لوحات أعدّتها المخرجة السينمائية عام 2011 بعد أشهر قليلة على سقوط مبارك وقبل وقوع المواجهات الدامية مع الجيش. في هذه الأعمال، نرى رومانسية الثورة وأحلامها واعتماد همام على رسم حالة من التصالح بين الجنود المدجّجين بالسلاح والخلفية الهادئة التي اختارتها لهم، إضافة إلى التغيير في ألوان بشرتهم التي بدت أكثر إشراقاً ونعومةً. كذلك ركزت نرمين على وضع عناوين فريدة لهذه اللوحات، مثل «براءة»، و«نعومة»، و«ضعفاء»، مستفيدة من الوجوه «المشرقة» لؤلاء الشباب الذين أظهرتهم كأنهم أطفال.
أمّا المجموعة الثانية من الأعمال التي تحمل عنوان «انكشاف»، فتظهر انقلاباً كبيراً في النظرة إلى هؤلاء الجنود، بحيث تنكشف الصورة الدامية وراء رومانسية العسكر في لوحات المجموعة الأولى. انتهت نرمين من إعداد المجموعة الثانية في ربيع 2012، مستندةً إلى الصورة الشهيرة لعنف الجيش المصري في الصحف المحلية والعالمية، والمشاهد القاسية، والتظاهرات الدامية في ميدان التحرير، إضافة إلى أحداث «ماسبيرو» وغيرها من المواقع التي شهدت صدامات بين المواطنين والجيش. هنا، تعتمد الفنانة المصرية على اللوحات اليابانية كخلفية رئيسية لصور العنف، إلا أنّها لا تلجأ إلى الألوان الهادئة والناعمة كما في المجموعة الأولى، بل ترتكز على لوحات يابانية قديمة تعود إلى القرون 15 و 17 و19. هكذا، تقلّص همام أحجام المتظاهرين وأفراد الجيش وتقتبس أحداث «موقعة الجمل» لتدخلها في إطار لوحة يابانية ذات لون قاتم فيها نمور ووحوش تتداخل مع مواجهات الشعب والجيش.
تقول نرمين إنّ الخلفيات والصور اليابانية هي بطاقات تهنئة تلقتها منذ زمن، فأعادت استخدامها في مجموعتيها الجديدتين. إضافة إلى ذلك، سنكتشف أنّ همام استخدمت تقنيات سينمائية عدة في تصميم لوحاتها. كذلك اشتغلت على العديد من التفاصيل الصغيرة لاستكمالها. مثلاً، مَن ينظر إلى أيدي الجنود في المجموعة الأولى، يخال أنّه ينظر إلى أيد أنثوية. كذلك إنّ تركيز الفنانة على تفاصيل الوجه في المجموعة الأولى، وتركيزها على الهوامش في المجموعة الثانية، منح المعرض بمجمله حالة فريدة ومتناقضة ترسم تساؤلات عوضاً عن الأجوبة، فالفنانة تقوم بتجريد واقع السياسة المصرية بدلاً من توثيقها.
لاقى معرض همام استحسان العديد من زوّار الصالة اللندنية، وشعر بعضهم بعدم ارتياح لهذا النوع من التناقض بين صورة الجنود المسلحين والخلفية الرومانسية، فيما اتفق آخرون على أنّ المعرض «يشكّل حالة من الصدام في مخيّلة المتلقي» مع حضور طاغ للعنصر السينمائي. نرمين همام التي درست الإخراج في نيويورك عملت مع عدد من السينمائيين، أهمهم يوسف شاهين ومساعدة منتج في فيلم «مالكوم أكس» الشهير. لكنّها تركت الفن السابع لاحقاً، وتفرغت للفنّ، فقدمت العديد من المعارض الخاصة في دول عدة قبل أن تقدّم معرضها الفردي الأول في بريطانيا.

«القاهرة سنة أولى» لنرمين همام: حتى 24 آب (أغسطس) الحالي ـــ «قاعة موزاييك» (لندن، شارع كرومويل)
www.mosaicrooms.org



هنا لندن

«قاعة موزاييك» التابعة لـ«مؤسسة عبد المحسن القطّان» في لندن، استضافت معرض نرمين همّام «كجزء من مشروع المؤسسة المهتمة بالفنّ الحديث والأدب العربي والتعريف بهما». «القاهرة... سنة أولى» أقيم بالتعاون مع «غاليري روز عيسى» الهادفة أيضاً إلى التعريف بالفن الحديث في الشرق الأوسط. عيسى التي تعود جذورها إلى لبنان وإيران، استضافت العديد من الأسماء الفنّية الحديثة في العالم العربي وإيران، مثل اللبناني أيمن بعلبكي. كذلك تسعى حالياً إلى التعريف بما بات يُعرف بـ«فن الثورات»، مركزةً على أعمال ذات بُعد ثقافي تحاكي الواقع وتخلق حالة صدام أو تمرد على الراهن.