هل أنت الآن على الحياد؟ ما هو موقفك مما يجري؟ ألم ترسل في مهمة (من قبل الجيش السوري الحرّ) إلى لبنان؟ هل كنت ترسل إليهم معلومات عن حلب؟ ممن تطلب إطلاق سراحك اليوم؟ من تناشد؟ هل تعرف ما الذي حلّ بالمختطفين اللبنانيين في سوريا؟ هل تعرف أنك مختطف بسبب موقف دولتك الداعم للمعارضة السورية؟ هذه عيّنة من الأسئلة التي وجهتها مراسلتا «الجديد» و«المؤسسة اللبنانية للإرسال» أول من أمس إلى عدد من المختطفين (سوريون وتركي) لدى ما يسمّى «الجناح العسكري لآل المقداد». أسئلة لا تختلف بتاتاً عن تلك التي استمعنا إليها تُطرح من قبل الخاطفين على أول المخطوفين (النقيب محمد ومساعده) وبثّتها قناة «الميادين» صباح أول من أمس. بدا كأن الخاطفين الذين كثرت مسؤولياتهم بعدما وصل عدد ضحاياهم إلى الثلاثين في فترة بعد الظهر، باتوا بحاجة إلى إيكال المهمة الإعلامية إلى «متخصّصين». وأين سيجدون أفضل من أبرز شاشتين لبنانيتين لتسليمهما المهمة؟ لم يكن الأمر صعباً. فـ«الجديد» وLBCI تعيشان اليوم منافسة حامية، شكلت قضية المخطوفين اللبنانيين مادتها الأدسم.

منافسة تدفع الإعلاميين إلى الموافقة طوعاً، بل التسابق، على التحوّل إلى «جناح إعلامي» لعشيرة آل المقداد، تماماً كما تسابقوا على التحوّل إلى مقدّمي حلقات في برنامج الخاطف السوري أبو إبراهيم، مروّجين له ولرسائله التحريضية في غياب أي حسّ بالمسؤولية.
لم تكن هذه الزلّة الوحيدة التي وقعت فيها المحطتان خلال النقل المباشر الذي أدارتاه طيلة النهار، واستمرتا فيه أمس من دون مراعاة لما يمكن أن تثيره «المعلومات» التي يطلّون بها على اللبنانيين، معنيين كانوا بقضية الخطف أو غير معنيين. وكانت خاتمتها تأكيد وفاة المخطوفين اللبنانيين الأحد عشر في القصف الذي تعرّضت له مدينة أعزاز «بأسف»، تقول المراسلة التي أعطيت الهواء، مؤكدة تبلّغ «كلّ المسؤولين اللبنانيين والمعنيين هذه الحقيقة!».
قد يقول متابع إنّ تعداد «الهفوات» التي يقوم بها العاملون في المحطات التلفزيونية بات مملاً ويكاد يصبح «تشاطراً»، وخصوصاً لمن لا يعرف تقنيات النقل المباشر، وشروطه، والظروف الضاغطة التي يعمل المراسلون في إطارها. وهذا صحيح في جزء منه بعدما بات مسلّماً به أنّ هذا الامتياز التلفزيوني كسر الكثير من القواعد الجامدة للعمل الإعلامي. القاعدة هنا هي تقديم منتج ناجح، (بمقاييس الإثارة والسبق والسرعة) وليس تقديم المعلومة الصحيحة (التي ستتأخر). الإعلاميون الموجودون في مكان الحدث لا يملكون ترف الانتظار والاختيار، وحتى تقويم المعلومات التي تصلهم، بما أنهم مضطرون إلى ملء الهواء الكثير المعطى لهم. يقولون أي شيء ليمرّ الوقت وتنتهي المهمة الصعبة، وخصوصاً عندما لا يكون هناك ما يقال. وعندما يتعبون، لا يتردّدون في إعطاء الكلام لآخرين يملأون الهواء عنهم، فترفع حرارة الكاميرا «الأدرينالين» في دماء اللبنانيين، لتنهال التهديدات والاتهامات، بكلّ ما في عزم اللبناني من طائفية و«قبضنة»...
لا يخرج ما حصل أول من أمس على شاشتي «الجديد» و«اللبنانية للإرسال» عن هذا الإطار. ولا يكفي لنسيان ما ارتكب خلال عشر ساعات من البث المتواصل لفيلم رعب واقعي، التحذيرات التي تطلّ علينا في مقدمتي نشرتي الأخبار المسائيتين. تعترف الأولى بأنّ الأخبار التي بثتها طيلة النهار «سيئة»، مبدية تعاطفها مع الضحايا (الذين قلّبتهم على الجمر طيلة النهار)، فيما تذهب الثانية أبعد في التحليل، مبشّرة باقترابنا من النيران السورية (ورغم ذلك تكون أوّل من يعلن خبر مقتل اللبنانيين الـ 11 في سوريا). مقدّمتان تزيدان الطين بلّة، لأنهما تكشفان وعي إدارة هاتين المحطتين لخطورة ما يحصل، وعلى الرغم من ذلك، تتصرّفان بمراهقة مفرطة مع السبق الصحافي.
إن ارتكاب المراسلين لبعض الأخطاء قد يكون مطبّاً «طبيعياً» لأي عملية نقل مباشر. وقد يكون مفيداً دوماً الإشارة إليه، لتنبيه المشاهد أولاً، وإعادة الاعتبار إلى بديهيات المهنة وأخلاقياتها ثانياً. لكن الاستمرار في تعدادها من دون معالجة من قبل المعنيين (الواعين كما اتضح لنا) قد يصبح من دون معنى. كيف يمكن لمحطتين تلفزيونيتين، هما الأكثر مشاهدة في لبنان، أن تسمحا بارتكاب أخطاء بديهية على شاشتيهما من دون أي استدراك أو اعتذار أو مراجعة حتى لقرارهما في النقل المباشر. يكفي لتفعلا ذلك أن تتخيّلا لحظة واحدة، كيف كان يمكن ليوم أول من أمس أن يمرّ من دون تلفزيون. فلنفكّر: من أين كان لـ«الجناح العسكري» لآل المقداد أن يطلّ على اللبنانيين ويروي مآثره؟ كيف كان لفتية الشوارع، أن يجدوا حجة لقطع الطرقات وتمضية الوقت في التنكيل بالمسافرين والعائدين من أبناء وطنهم؟ وكيف كان لآخرين أن يجدوا حجة «أخلاقية» تسمح لهم بتوقيف كلّ مواطن سوري و«التحقيق» معه؟...
لا يعني ما سبق أن المطلوب إخفاء المعلومات. لكنه يعني حسن إدارتها، تحسّباً لردّات الفعل التي حصلت فعلاً. هكذا لا يستدرج فيلم المخطوفَيْن المصوّر صباحاً، المزيد من الأفلام المنسوخة، يقدّمها إعلاميون يضفي حضورهم شرعية على ما يبثّ. من حق المراسلين (والمشاهدين) محاولة الوصول إلى المخطوفين، وإجراء مقابلات معهم، شرط أن لا يصبّ هذا الأمر في خدمة الخاطفين (بما أن رسالتهم وصلت). كان بإمكان المراسلتين ـــ عوض طرح أسئلة استجوابية تبرّر الخطف ـــ الاكتفاء ببث صور تطمئن أهالي المخطوفين إلى سلامتهم، وطرح أسئلة تصبّ في خدمة هذا الهدف. لكنهما غرقتا في «حوار» سياسي مع أشخاص مسلوبي الحرية، فبدا أنّ من أصيب بـ«متلازمة استوكهولم» التي تسابق كثيرون للصقها بالمخطوفين اللبنانيين الأحد عشر المهدّدين بالموت، هم الإعلاميون «الأحرار». إعلاميون لا يتجرأون على قول ما لا يسمح به الخاطفون، ولا على تغيير مصطلحاته حتى.
في سوريا، المخطوفون اللبنانيون «ضيوف». وفي لبنان بات هناك فعلاً «مجلس عسكري لآل المقداد». هكذا، بكل بساطة (سذاجة؟) ينقل المراسلون ما يقال لهم من دون محاولة اللجوء إلى استخدام مفردات تشكيكية، طالما استعملتها الصحافة (مثل: ما يسمّى، زعم، تردّد، قيل لنا)، عدا عن التغاضي عن ممارسات يمنع الخاطفون بثّها أو الإعلان عنها. في ظلّ كل هذا الإذعان الصحافي للخاطفين، لا يعود غريباً أن يقرّر هؤلاء فجأة منع التصوير كما حصل أمس خلال مؤتمر صحافي لآل المقداد. ولا يعود غريباً أيضاً أن يكون أهالي المخطوفين هم الذين يطمئنون أنفسهم، فتطلّ حياة عوالي لتعلن: «لا شيء يثبت أن المخطوفين كانوا في المكان الذي تعرّض للقصف».
أما المسؤولون السياسيون الذين اعتادوا استغلال مناسبات مماثلة للظهور الإعلامي (كارثتا سقوط الطائرة الإثيوبية وانهيار مبنى الأشرفية مثلاً) فغائبون عن السمع. ومن يطلّ منهم، يعترف بأنه يستقي معلوماته من وسائل الإعلام كما قال وزير الخارجية عدنان منصور. حتى إن الخاطفين صاروا يستقون معلوماتهم من وسائل الإعلام، ويعيدون إنتاجها، فينقلها الإعلاميون مجدداً على أنها معلومات منسوبة إليهم. نسمع مراسلة «أل بي سي» تسأل أمين سرّ رابطة آل المقداد ماهر المقداد عن مصير المخطوفين الأحد عشر (لماذا توجّه له هذا السؤال أصلاً؟) فيقول لها: سمعت عبر الإعلام أنهم قد يكونون استشهدوا!
يحصل كلّ هذا في وقت تواصل فيه «أل بي سي» بثّ إعلاناتها ضمن سلسلة «شايف حالك؟». فمن يقول لها، ولزميلتها «الجديد»: شايفين حالكن؟