ما الذي يملكه سينمائيو لبنان غير شغفهم وسط تقلّص المساحات الثقافية والأوكسجين في فضاءاتهم؟ ما الذي يملكونه غير مدخراتهم الفكرية وتمسّكهم بالأمل مع انقراض الوعي الجماعي، واتساع رقعة اليأس الوطني، أو ربما رضوخهم إلى ميزانية «ما تيسر» مع شحّ الإنتاج المحلي، أو ربما استسلام بعضهم لما يشتهيه الغرب سينمائياً للفوز بُمنتِج كفيل بأن يوصل تلك الأعمال الى الجمهور العريض؟ ربما فقط تلك المتنفسات الفكرية ومنها «مهرجان السينما اللبنانية» الذي تنطلق دورته العاشرة الليلة في «متروبوليس أمبير صوفيل» بعدما نفض إدارته وطعّمها بوجوه جديدة (راجع المقال أدناه).
في الدورة العاشرة، تزدحم الأفلام بتوقيع أسماء أسهمت في صناعة الفن السابع اللبناني كغسان سلهب، وفيليب عرقتنجي وهادي زكاك، وتلك التي تنتمي الى جيل حاول أن يصقل تجاربه الأولى لتشكل انطلاقة جدية لمسيرته، وصولاً الى أفلام الهواة. ولأنّ المهرجان يشكّل أرضيةً خصبة للتجديد، فما الضير ببعض الجنون والأفلام التجريبية التي تشكّل «البهارات» التي تُضفي نكهةً على المهرجان؟
افتتاح المهرجان الليلة سيكون مع فيلم «أرواح ما قبل الافطار» (1928) للألماني هانس ريختر (س:8:00). شريط قصير صامت بالأبيض والاسود يقدّم برفقة عزف حي على الترومبيت يؤديه الموسيقي المعروف ابراهيم معلوف، قبل أن يعرض أحد أهم أفلام/ القضية في المهرجان. إنّه «خلفي شجر الزيتون» لللبنانية الشابة باسكال أبو جمرة. يطرح الشريط الروائي الطويل قضية الهاربين الى اسرائيل وعائلاتهم من خلال فتاة عاشت طفولتها لاجئة في بلاد أذلتها، حالمة بالعودة الى أرض تنبذ تاريخ والدها العميل. تعود الفتاة إلى لبنان لتواجه نبذ مجتمع ذاق مرّ الاحتلال وتنكيل عملائه. الفيلم المثير للجدل، يطرح مأساة وطنية وانسانية واجتماعية، لكن من دون أن يغوص في أبعادها وخلفياتها. ويستكمل اليوم الأول برنامجه مع فيلم تجريبيي لوفاء حلاوي (يمكننا كذلك ـ 3 د) اختارته أن يكون راقصاً تعتمد فيه على التحريك لصور ثابتة في عمل تقني بحت. وختام الليلة الأولى تحية الى الراحل غسان تويني في فيلم «أرض لإنسان» لفيليب عرقتنجي.
فالمخرج الذي دخل عالم السينما من خلال عدد كبير من الأفلام الوثائقية كسر الجليد مع الجمهور من خلال فيلمين حظيا بإقبال جماهيري لافت هما «بوسطة» الذي طرح قضية الحداثة في الفنون عامة والتجديد في التراث والرقص خاصة، وفيلم «تحت القصف» الذي يبحث فيه في حرب تموز وتداعياتها في انتقاد لاذع للحرب وجدواها. لكنه اليوم يعود في عمل تكريمي للراحل غسان تويني حيث التقاه المخرج وتسلل بكاميرته الى منزله وارضه ومنهما الى حياته سابراً اغوار شخصيته التي صقلتها ازمات الموتن المتكرر، من الوالد الى الزوجة فالأبناء الثلاثة حتى غدت حياته قصة تناقض بين نجاحه في الصحافة والسياسة وخيبات كثيرة علمت حياته.
اليوم الثاني لن يقل تنوعاً عن امسية الافتتاح فيستقبل عدداً من الأفلام التي يرتقي بعضها ليعلق في الذاكرة. فيفتتح الصالة رقم واحد برنامجها مع «رسائل من غريب» لكريستوف قطريب الذي يروي احداث هبوط كائن فضائي على الأرض ويفشل في التواصل مع البشر في رؤية «من بعيد» لانقطاع التواصل بين الشعوب قبل ان يعرض الفيلم الوثائقي السياسي «قلت للرئيس مبارك» لخالد رمضان.
الفيلم قد لا يعدو اكثر من فيلم هواة من لناحية التقنية لكن اهميته تكمن في تتبع رمضان للشخصية التي حظيت باحترام المصريين والعرب كافة في تاريخ نضال الشعب المصري ضد الرئيس المخلوع حسني مبارك. انه حمدين صباحي الذي حل ثالثاً في الانتخابات الرئاسية المصرية الاخيرة والذي لو قدر له ان يصل الى الدورة الثانية من الانتخابات لشكل خياراً بديلاً امام الشعب الذي علق بين مطرقة الحرس القديم الذي مثله احمد شفيق وسندان الأخوان المسلمين الذين نصبوا اول اخواني رئيساً مطلق الصلاحيات على ارض الكنانة. «ضربة الحظ» هي في ان الفيلم صوّر في مرحلة ما قبل الثورة حيث كانت طموحات صباحي لا تعدو اكثر من احلام يقظة ليكون الفيلم عادياً لولا لعب القدر نرده الرابح فأطاح الشعب بالرئيس الصلب وبات الحالم مرشحاً جدياً للرئاسة لم تكتب نتائج الانتخابات حداً لطموحاته.
وبعد «قلت للرئيس مبارك»، يعرض فيلم حاجز تفتيش لروبن عمار الذي يدخل في يوميات طفل غزاوي يعتاد زيارة الأطلال مع والده والمرور في طقس يومي على نقاط التفتيش الإسرائيلية. ومن ثم «يوم من سنة 59» لنديم تابت يرافقه عزف حيّ بمشاركة شريف صحناوي (غيتار كهربائي)، شربل هبر (غيتار كهربائي)، طوني علية (باص كهربائي).
ومن الأفلام التي لا بد ان تثير جدالاً في المهرجان فيلم «الخط الأزرق» لألان صوما، وهو احد اهم الأفلام المشاركة من الناحية الفنية، ان على صعيد التصوير او التمثيل او حتى القصة، وهو يتحدث عن راع طفل اجتازت بقرته الخط الأزرق في جنوب لبنان في تموز 2006 وكادت تثير حرباً لولا «شهامة» عسكري من الكتيبة الهندية في اليونيفيل، وآخر اسرائيلي، عرضا حياتهما للخطر لإنقاذ الولد والبقرة. لكن اللافت في الفيلم هو سعي المخرج إلى بث السم في الدسم، فيظهر الجنود الإسرائيليون محبين للسلام، وما «عدوانيتهم» إلا بسبب خوف مبرر من أشرار المقاومة اللبنانية ، لا سيما مع معلومات اعطيت لهم وتفيد بتحضير المقاومين لعملية الأسر الشهيرة. ما يدفع الى الاستنتاج بأن المقاومة في موقع المعتدي على حمائم السلام في الجيش الإسرائيلي!
ومن ثم يعرض فيلم «جسد، ملكة التناقضات» الذي تستعيد فيه المخرجة أماندا حمصي ـــ أوتوسون تجربة الشاعرة والاعلاميّة جومانا حدّاد، واطلاقها مجلّة «جسد» السجاليّة، وما رافقها من انتقادات واسعة حتى من اهل الثقافة انفسهم. يحاول الفيلم أن يبين ما دفع هؤلاء لمحاربة جسد، كما يعطي لحداد حق الدفاع عن ابنتها «الضالة»، وفق ما حكمت شرائح من المحافظين في لبنان، و… غير المحافظين ايضاً.
ويستهل البرنامج مع ندوة «صور ومتخيلات، موقعها في الإبداع السينمائي» التي يشارك فيها الزميل بيار ابي صعب الى جانب جيرار بجاني وسيمون الهبر.
اما الختام فيكون مع ثلاثة افلام تفتح ملف العنصرية بداية مع فيلم كارت بلانش لغسان سلهب الذي يعيدنا الى حقبة النضال من اجل الكرامة الانسانية في وجه العنصرية، باحثاً في معارك الموسيقى والسياسة أيّام جماعة الـ «بلاك بانترز» (الفهود السود)، ذلك الزمن الذي عرف حروباً وثورات، شكلت الرمح المتقدم في طعن التمييز العنصري وانهيار الطغاة أمام حربته. قبل ان يعرض فيلم «الفهود السود» لآنياس فاردا ومن ثم مقتطفات من شريط «قوّة السود» لغوران هوغو أولسون.
وفي الصالة رقم 2 تعرض نغم عبود فيلمها الروائي خلف النافذة الذي يحكي عن قصة طفل فقير يعشق معلمة موسيقى تكبره بسنوات فيتلصص عليها ببراءة الأطفال، ويفعل المستحيل ليخبرها بحقيقة مشرعره. الفيلم من الافلام الخفيفة المسلية إذ يلج احلام المراهقين الهاربين من الفقر الى الحب، ذلك الشعور الذي يولد ارادة تستطيع قهر امرهم الواقع. ثم يعرض فيلم «لحن في الظل» لجيسيكا منصور، وهو روائي بالأبيض والأسود يحكي قصة رجل أعمى استطاع ان يربي في ذاته طمأنينة يفقدها كل من يجالسه في احدى الحانات، حيث تعزف موسيقى جميلة هادئة قبل ايام من اقفالها النهائي. ويمكن القول إن عمل جيسيكا منصور ينطوي على نفحة انسانية تغني برنامج المهرجان. ومن الافلام القيمة التي تعرض في الصالة ذاتها الفيلم الوثائقي «بيروت ــ بيونس إيريس ــ بيروت» من اجراج هرنان بيلون، ويحكي عن سيدة اأرجنتينية تبحث عن جذورها اللبنانية فتقودها رسائل جدها الأول الى قرية كفركلا اللبنانية حيث وتتعرف إلى اقاربها، وإلى ثقافة غريبة عنها، متأثرة خصوصية القرية الواقعة على الحدود وقدرها ان تكون في قلب الصراع العربي الإسرائيلي.
وللتجريب حصته ايضاً من خلال فيلم لغيث الأمين تحت عنوان TSTL الذي لا يرى فيه المنتقدون أكثر من هذيان سينمائي. علماً أن الفنّان الشاب الذي يستعطي على التصنيف، يقوم هنا بتعرية «خطاب» الفن المعاصر الذي يقتصر على «المفهوم»… سبق لغيث أن قدم عدداً من الأفلام الجيدة، وبنى له سيرة مهنية احترافية، وها هو ينتقد من خلال فيلمه التجريبي فكرة الأفلام التجريبية برمتها، ولسان حاله يقول: «هذه السخافة ستستمر طويلاً» كما تظهر الصور الأخيرة في الفيلم.
أما جيهان شعيب فتحمل من المكسيك، حيث نشأت وترعرعت، أوهامها عن وطن الأحلام فيه تقاوم الاحتضار، رغم اختناقها بالأزمات المتكررة والحروب. وها هي تستعيد عبر الفيلم بلدها الحميم، وتناقضاتها، متمسكة بالأمل وساعية إلى استعادة هويتها الأولى، وانتماءها إلى المكان، في وطن كما ارادته ان يكون لا كما هو فعلاً. ويقدم شربل كامل فيلمه التجريبي القصير «سنسوخت«، وفيه فتلاحق الكاميرا امرأة في لقطات تحكي عن لحظات في حياتها، تُختبر فيه تفاعلات العين والأذن مع المخيلة فتغدو حتى النشوة تعبير لا مرئي لا يشبه أبداً الصخب الذي يعشعش داخل مكنوناتها. ويستهل البرنامج مع فيلم أعمال التدمير لأنطوان لترا يعقبه لقاء مع منتجة الشريط تانيا الخوري.
اليوم الثالث من المهرجان يشهد ايضاً تجارب جديرة بالمتابعة فتفتتح الصالة رقم واحد برنامجها مع فيلم "مسنة" لزلفا صوراط وتلج فيه ازمة السنتين في العلاقة الزوجية، ويبدو انها عملت على الناحية النفسية من شخصية الفيلم الأساسية بما يكفي ليغطي على عيوب الفيلم الأخرى، فتضع المشاهد امام شخصية مركبة تحاول كسر الرتابة التي تقتل الزواج، فيما تجد نفسها عالقة في الرتابة نفسها.
ومن بعد مسنة يقدم انطوان ناصيف فيلمه الوثائقي مسرح بيروت، ويحاول فيه ام يوثق اقفال مسرح بيروت وما رافقه من حركات مناهضة انطلقت للدفاع عما تبقى من الصروح الثقافية، وتبرز اهمية الفيلم انه يغوص في تأريخ المسرح وصيرورته، ويبحث في الأسباب الآيلة الى تآكل المساحات الثقافية من خلال مقابلات مع المعنيين بالمسرح في مقاربة موضوعية بعيداً عن عن التغني السطحي بالتراث والثقافة.في تقدم ياسمين غريب فيلمها صداد الروائي الذي يتحدث عن ثنائيين يعرفان علاقتين متناقضتين. غير ان الفيلم رغم قبوله ليكون في ركن الأفلام القصيرة في كان، فتشوبه الكثير من العيوب في بناء القصة او في تطبيع العلاقة بين شخصياته.
أما تمارا ستيبانيان فتقدم فيلم «١٩ شباط» الذي يتحدث عن رجل وامرأة موجودين في القطار نفسه كل في مقصورة مستقلة، وهما يكملان بعضهما البعض بمشاعرهما وحاجاتهما، غير انهما لا يلتقيان. فكرة الفيلم وتنفيذه جيدان، غير انه كان في امكان تمارا ان تختصر نصف التوقيت على الأقل وان تحذف الكثير من التفاصيل التي لم تضف الى الفيلم الا بعض الرتابة التي كان في غنى عنها. كما يعرض في الصالة ذاتها فيلم «شلوق» لجهاد بزري وهو عن رجل يعاني اضطراباً دائماً. وترافقه حالة أرق متواصل ما يجبره على رؤية نفسه عاجزًا وضعيفاً أمام أفكاره. وفي الصالة رقم ٢، يعرض فيلم «الما بعد» لوسام طانيوس الذي يحاول فيه ان يحارب الحزن الذي تركه في عائلته غياب شقيقته، قبل ان يقدم هادي زكاك فيلمه «تاكسي بيروت» الذي ينتمي الى سلسلة تاكسي المدينة التي يحاول فيها ان يرسم شخصية المدينة، ويحدد ثقافتها من خلال سائقي التاكسي فيها، وهو مشروع نفذه في عدد من الدول العربية قبل ان يطلق رائعته «مارسيدس» التي تعد تتويجاً لمسيرته الوثائقية.
وللتجريب حصة في اليوم الأخير ايضاً، من خلال الشريط الذي يقدّمه بانوس ابراهيميان بعنوان «كان بشير يعني لهم مثلما كان بووي يعني لي» في تجريب يجمع بين الموسيقى والتحريك السينمائي، في فيلم ممتع.
ومن الأفلام الروائية يعرض فيلم «أبو رامي» لصباح حيدر عريضة ويبحث قصة سائق تاكسي يتزوج على زوجته سراً بعد عمر طويل، فتبدأ المشكلات بعد ان تشعر الزوجة الأولى بتغير في تصرفاته. ويقدم روي عريضة فيلمه «بعدنا» الذي يتحدث عن توفيق وزينة اللذين تواعدا على مستقبل قضت عليه طبول الحرب، بعد ان استسلم توفيق للهجرة كما فعل الكثير من اليائسين. لكن هل تدع زينة حبيبها يذهب فعلاًً؟ وتختتم افلام اليوم الثالث مع التجريب السينمائي في شريط «قصة الفراشة العذراء» الذي يجمع بين المسرح والرقص والسينما الصامتة. ولا عجب في ذلك، فمؤلّفه هو الراقص والكوريغراف اللبناني وليد عوني العائد من اقامته القاهريّة بعمل يستعيد السينما الصامتة التي اسست للسينما المصرية والعربية في سنواتها الأولى. العرض يعقبه نقاش مع المخرج، بالاشتراك مع الراقصة كارولين حاتم والمخرج هادي زكّاك.
اما يوم الأحد فتمنح لجنة الحكم الجوائز وهي جائزة أفضل فيلم روائي المقدمة من قبل المنظمة الدولية للفرنكوفونية، وجائزة أفضل فيلم وثائقي المقدّمة من الأونسكو ـــ وزارة الثقافة اللبنانية، إضافة إلى جائزة الفيلم الأول. ومسك الختام فيلم الإيراني أصغر فرهادي «أولاد بيلفيل» الذي اكتشفه الجمهور الغربي بعد نجاح «انفصال نادر وسيمين» (2011)… من الأفلام «الضيفة» بمعنى ما، نشير أيضاً إلى «الأعشاب المعذبة» للارا لي، و«دمشق، خطر الذكريات» لماري سورا.



«مهرجان السينما اللبنانية»: من 23 حتى 26 آب (أغسطس) ــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/204080 ــ www.lff2012.org


تم تعديل هذا النص عن نسخته الورقية بتاريخ 24 آب 2012