لا تبتعد رنا زيد كثيراً عن الشعريات الراهنة التي تستثمر مناخات السيرة ونثريات الحياة العادية، لكنها تحاول الابتعاد عن الروتين الذي باتت تفرضه هذه الشعريات التي يتشارك أغلب الشعراء الشباب كتابتها اليوم. اللغة المتينة والذكية هي أول ما يلفت انتباهنا في باكورتها «ملاك متردّد» (الدار العربية للعلوم ناشرون). ذكاء اللغة يسري على مناخات القصائد التي تتجنّب فيها الشاعرة الفلسطينية المقيمة في سوريا الكثير من عثرات البدايات. هناك نضجٌ نابعٌ من شغف الشاعرة بنبرتها الخافتة والمرنة، ومن نفوذها الواضح في السير بالقصائد وسط الاستعارات والصور الذاهبة إلى نهاياتٍ لائقة بها. صحيحٌ أن ذلك لا يمنح الجودة ذاتها لجميع القصائد، وصحيح أننا نقرأ أحياناً مقاطع وسطوراً عادية ومتسرّعة، ولكن هذا يظل مبرراً في مجموعة أولى، كذلك فإنه قليلٌ وذائبٌ في المزاج العام للمجموعة المحكومة بثنائية الأنا والآخر، لكن المتخلصة إلى حد كبير من ميوعة هذه الثنائية الغارقة في تقليديات الوصال والهجر والانتظار.
تخترع رنا زيد «وحشاً» يرافق بطلة قصائدها، ويجعل القصائد نفسها محببة: «إن لم أمتْ، فمن سأكون؟/ راقصة باليه/ رمت في البئر قلبها/ كإناء حديدي/ ثم أخرجته متشققاً/ سحبها الوحش إلى البئر/ صارت مثله وحشاً». الوحش يصبح نوعاً من تقنية شعرية، فيحضر في مقاطع عديدة. قد تكون هي الوحش: «أنا امرأة/ كنتُ وحشاً مثلما حلموا بي»، أو «لا أعلم كم من الوقت عليّ أن أكون طيّبة/ لأنهم يكرهون الوحوش»، وقد يُطلب منها أن تُخرجه من داخلها: «اكشفي قلب وحشكِ في هذا الليل/ لأحبَّه قليلاً». بطريقة ما، ترفع فكرة «الوحش» سوية القصائد التي يحضر فيها، ولكن الشعر منجز بممارسات أخرى أيضاً، حيث تتحرر الشاعرة من إرهاب الكثافة والحذف. لا يهمّ إنْ مالت القصيدة إلى السرد والاسترسال، أو طال الطريق للوصول إلى المعنى، كما هي الحال في قصيدة «كنتُ وحشاً»: «هكذا عاريةً/ وحبّة كرز في فمي/ لا تُحسبُ حركتي في الأيام الضائعة/ أركض/ أتذكر من أعطيتُه الكرزة في الغابة/ هذا ما بقي على أصابعي من القبلات/ ثمة فراشاتٌ تحت ظل الشجرة الواسعة/ تداعب الفخاخ العالقة على قدميّ».
الواقع أنّ هناك صعوبة في اجتزاء قصائد غير خاضعة أصلاً لمونتاجٍ مقطعي. نحتاج إلى قراءة متأنية كي تصلنا المناخات التي تتحرك فيها المجموعة كلّها، لكنّ ذلك متيسّر أكثر في قصائد قصيرة ومضغوطة، كما في «بعد موتي»: «في قلبي تفاحة/ وهو أكلها/ بعد موتي/ سأتقمّص شجرة تفاح/ لا أؤمن بالتقمص/ سأكون قلباً صغيراً/ أَيَقضمُهْ»، أو في قصيدة «آمنة»: «مع قليل من الزنبق سآتي إليكِ/ وقلب اتخذ شكل عصفور مهذب/ يتنفس مرة كل دقيقة/ كي لا يزعجك/ سأُضحكك طويلاً/ كما كنا نتآمر على الأطباء الأوغاد/ نطرد من لا تريدينه من صور الذكريات/ بصوتٍ مرتفع وشعبيّ جداً/ ننادي الله لينضم إلينا/ فهو طيب القلب/ يا أمي». قد لا يتسامح قراءٌ متطلِّبون مع قصائد متلكئة في وصولها إلى الخاتمة، وقد ينتقد آخرون المذاقات الرومانسية فيها، لكن ذلك لا يمنع أن نمتدح «عصامية» هذا الشعر الذي تنصت فيه صاحبته إلى مزاجها الداخلي أكثر من اهتمامها بالوصفات المسبقة.