بانة بيضون■ إلى أي درجة يعد هذا الفيلم سيرة ذاتية، وخصوصاً أن أحداثه تدور في مدينة مارسيليا حيث ولدت، مع العلم أنك متحدر من أم ألمانية وأب أرمني؟ وهل كانت كل هذه الانتماءات مصدر تنازع عندك؟
كل الأفلام التي أخرجتها هي سير ذاتية لأنها تنطلق بمعظمها من تجاربي الشخصية ومن رغبتي وحاجتي الملحتين لأن أخرجها. أضع من نفسي ومن حياتي في كل الشخصيات، لكن بالمعنى الدقيق للكلمة، ليس الفيلم فعلياً سيرة ذاتية لكنه ينتمي إلى ما يعرف وما نستمر في تسميته حتى اليوم سينما المؤلف، أو السينما المستقلة. لا، لم تكن هذه الهويات مصدر تنازع. أظن، من وجهة نظر قد تكون فلسفية أو سياسية، أن مستقبل العالم يكمن في التزاوج بين الأعراق المختلفة.

■ تختار أن تبدأ الفيلم بالأسود والأبيض ضمن أسلوب كلاسيكي نشهد فيه محاكمة سوغومن تهليريان الذي قتل طلعت باشا في ألمانيا عشرينيات القرن الماضي (رئيس الوزراء العثماني الذي كان له الدور الأكبر في المجازر التي ارتكبت) ضمن «عملية نميسيس» التي نفذها «الحزب الثوري الأرمني». ثم يكمل الشريط في مارسيليا بالألوان وبأسلوب مختلف يجمع الدراما والكوميديا، كأنك تشرح في البداية سينمائياً كيف تبنى أو تصنع صورة البطل؟
نعم، هذا صحيح. والأسود والأبيض سمحا لي في بداية الفيلم تقريباً، بصناعة أرشيف وبتوثيق ما حدث، وخصوصاً أن الحكومة التركية لا تعترف حتى الآن بالإبادة. لذا كان هذا وسيلة سينمائية للشهادة على حدوثها فعلاً. وقد سمح لي اللونان بألا أصور المجازر لأنني لا أجد أننا نستطيع تصوير مشاهد بهذا العنف. تكمن المجازفة في تصوير العنف أننا قد نجد لذة معينة في تصويره أو مشاهدته، أن نحوله إلى استعراض أو حتى إلى نوع من الترفيه، وهذا غير أخلاقي.
■ في هذا الإطار، ما رأيك بفيلم «القطع» عن الإبادة الأرمنية لفاتح أكين؟
أجد العمل مثيراً للاهتمام، وخصوصاً أنه يحمل توقيع مخرج تركي أعرفه شخصياً وأخبرني قبل ثلاث سنوات عن رغبته في إخراج الفيلم، فتأثرت ووجدت ذلك رائعاً من جانبه.

■ بالعودة إلى شريطك، الاستثنائي فيه هو المزج بين الكوميديا والدراما، الذي يعد عملاً دقيقاً وصعباً نظراً إلى الموضوع المتناول، حتى إنك تسخر بطرافة من المبالغة في اجترار ذكرى الإبادة كما في شخصية الجدة التي تخبر حفيدها أن يدعو كل الأتراك إلى عشاء ويسممهم؟
الأرمن غالباً ما تناولوا موضوع الإبادة بأسلوب يحمل شيئاً من القدسية، وأحياناً مع الموسيقى التي تضفي عليها ثقلاً لا يحتمل. ودائماً ما كنت أعتقد، منذ فيلمي السابق «سفر في أرمينيا»، أنه يجب تصوير نبض وحيوية الشعب حتى في معاناته، بحيث لا تمنع المعاناة الناس من العيش. هؤلاء الناس يحملون ذكرى إبادة شعبهم والمنفى الذي هم فيه لكن الحياة تكمل برغم ذلك. أظن أننا حين نصنع فيلماً يجب أن يكون أقرب ما يكون للحقيقة، وحتى في المحن الرهيبة، فإن البشرية تستمر.

■ في الفيلم نرى بيروت، ولا سيما برج حمود. وهناك ممثلون لبنانيون شاركوا في البطولة كرزان الجمال ورودني حداد، والمخرج اللبناني غسان سلهب، ما يخلق مزيجاً هجيناً من مدارس التمثيل، هل هذا مقصود؟ وهل أجريت الكثير من الأبحاث حول الأرمن في لبنان؟
نعم، لكن يجب القول إن علاقاتي في لبنان ساعدتني كثيراً. مثلاً، أعرف المخرج غسان سلهب منذ ثلاثين عاماً، وقد أنتجت بعض أفلامه مثل «أرض مجهولة»، وكنا دائماً نتحدث عن لبنان. وهناك أيضاً المنتجة اللبنانية الرائعة سابين صيداوي التي بذلت مجهوداً كبيراً في الفيلم. أتينا إلى هنا قبل عشرة أشهر من التصوير لاختيار المواقع والممثلين والتقنيين. كنت أريد أن اتحدث عن أرمينيا من خلال أجيال وبلاد عدة لتجسيد الشتات الأرمني حول العالم في أزمنة وأمكنة مختلفة.
ضمن رؤية سينمائية سياسية
غير نمطية، يقارب تاريخ النضال الأرمني في وجه الأتراك

■ الجنون الذي يصوره الفيلم نتماهى معه كلبنانيين، وهناك جملة طريفة على لسان قائد المقاومة الأرمنية المسلحة في لبنان، حين يقول إنّ ياسر عرفات صرح بأن الفلسطينيين لن يكونوا الأرمن الجدد. كيف ترى وجه الشبه بين القضيتين الفلسطينية والأرمنية؟
في هذه الحقبة، اجتمع الشباب الذين أتوا إلى بيروت حول القضية الفلسطينية التي كانت هي النواة. وقد نشأت كل هذه الحركات بشكل أساسي من الشيوعية. ورؤيتي إلى القضية الفلسطينية شديدة البساطة، يجب احترام اتفاقية ١٩٦٧، وحل قيام دولتين، وإنهاء هذه الأزمة التي هي في قلب كل الصراعات القائمة تقريباً، عندها ستهدأ المنطقة، لكن في الوقت الحالي، تعد اسرائيل دولة يمينية وقاسية ومستمرة في سياساتها الكارثية.

■ بعد الهجمات الإرهابية في باريس، هل أنت خائف من تصاعد التطرف والعنصرية تجاه العرب؟
نعم، أنا خائف جداً، لأن ما حدث يجري استغلاله حالياً في فرنسا من قبل «الجبهة الوطنية»، وهي تكتسب الكثير من الأصوات على أرضية مواقفها المناهضة للهجرة. لذا أنا خائف من فوبيا الآخر، ومن الإنزلاق إلى دائرة العنف الذي قد يتصاعد بسرعة نتيجة هذا الغباء.
■ هل ترى أنك تنتمي إلى السينما المناضلة أو المسيسة أم أنك ضد هذا المصطلح؟
بالنسبة إلى مصطلح السينما المناضلة، فهي توظف لمصلحة فكرة محددة، ولا تنتمي عادة إلى فئة الخيال. الفيلم النضالي هو ترويج لفكرة محددة أو بروباغندا، ولا أقول هذا على نحو سلبي. قد نصنع سينما مناضلة جميلة جداً. وفي الأفلام التي أخرجها، لا ألتزم طرفاً سياسياً، لكنني أعمل فعلياً في مضمار جد سياسي. منذ صغري، انخرطت في السياسة ولم أتوقف يوماً؛ بقيت شيوعياً حتى سنة ١٩٧٨، أي من الـ 14 عاماً إلى الـ 26 عاماً وهذه فترة طويلة، لكنني ما زلت شيوعياً من الناحية النظرية. أما عملياً فما زلت مؤيداً للحلم الشيوعي.

■ أحد أكثر المشاهد تأثيراً وجمالاً يكمن في نهاية الفيلم، أي بعد مقتل آرام في بيروت، حين نرى الأب يرقص قبالة صورة إبنه بينما تختلط كل المشاعر المتناقضة التي ينجح المشهد سينمائياً والممثل سيمون أبكاريان في تجسيدها؟
كان يجب أن يكون هناك مزيج من الألم والكبرياء والفخر، برغم أنه لم يكن موافقاً على انخراط إبنه في صفوف المقاومة الأرمنية المسلحة. هو فخور ببطولة ابنه، وهذا يجسد موقف أغلبية الأرمن من النضال المسلح. كان مثل الألم الضروري، إذ ما من أرمني واحد لا يعترف الآن بأنه لولا المقاومة المسلحة، لكانت القضية الأرمنية دفنت. وبالعودة في التاريخ، نجد أنفسنا كلنا اليوم في موقف هذا الأب. نحن فخورون بالذين حاربوا باستثناء العنف الأعمى.

■ تؤدي زوجتك الممثلة أريان أسكاريد دور أم آرام، بعدما شاركت في أغلب أفلامك، كيف تصف التعاون بينكما؟
نحن نعيش ونعمل معاً منذ عشرات السنين. هي لا تكتب معي لكنها تقرأ دائماً أول نسخة من السيناريو.

■ هل تُعدّ لفيلم جديد؟
سأصور فيلماً في الخريف المقبل. إنها دراما تراجيدية كوميدية عن قصة أخ وأخته، تدور أحداثها بجانب خليج صغير حيث يجتمع الشباب في مارسيليا أيضاً.

* Une Histoire de fou: «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)، «سينما سيتي» (01/995195)