رام الله | رغم جديته المطلقة، وحرارة مبادئه الوطنية والتزامه الأبدي طوال مشواره الفني بذلك، قدّم ناجي العلي (1937 ـــ 29 آب/ أغسطس 1987) تجربة خاصة في فن الكاريكاتور السياسي والناقد كالبركان، ولامس أكثر القضايا حساسيةً. كسر المقدس الرمزي، وقدس الشعب وقضاياه وهمومه، وطرح أسلوبه الفني الذي امتاز به منذ نشأته. كان خليطاً بين الرسم والكتابة، وكلاهما حملا تعبيراً ومجازاً صيرورياً.
الحدث بالنسبة إليه لا ينتهي، ولم تكن أعماله ردة فعل على المستجدات، بل منضوية تحت فكرته ومبدئه بالفكرة فلسطين. برسوماته البسيطة، استطاع أن يضع مقاربة ويربط بين ثلاثة أزمنة: الماضي الحاضر والمستقبل. ولو حاولنا تفحّص قدرة الفنان على وضع ثلاثة أزمنة في عمل فني واحد، لكان صعباً، واحتاج الى جدارية هائلة ليقول ما يريد في كل فكرة. رسوم ناجي العلي بسيطة وعادية، لكنّها لا تنتهي أو تنسى بعد أن تشاهدها، بل تبقى في عقلك الباطني والواعي وتدفعك إلى مناقشتها بين العامة وتدير حولها الحوارات. وهذا يعني أنّه قدّم نموذجاً فكرياً وفنياً ناضجاً. لم يعتمد على إرضاء الناس فقط، بل دافع عنهم وحرّضهم. في مقارنة بين أعمال ناجي العلي وأقرانه رسامي الكاريكاتور العالميين، نجد أنّه قدّم أسلوباً عاصفاً بالحركة والكتابة. لم يقدم أشكاله وعناصره كناقد اجتماعي، أو قضايا يومية، بل كرّس جل التجربة في مفهوم سياسي نقدي ورؤيوي في الوقت نفسه. قدّم دفاعه المستميت الذي مات من أجله لاحقاً ليحافظ على البعد الوطني بالعودة إلى فلسطين كاملةً ومحررة. شكل خطاً دفاعياً للمشروع الوطني بعد وفاته، في حين كان رأس هجوم في حياته، وبعث على تشويش وتشتيت تركيز المتزحلقين ببناء علاقة مع الإسرائيليين. هو كان يدرك خطورة هذا المشروع وعبثيته، وكان يؤمن بالحوار المتكافئ بين ميزاني القوى، بالاستنزاف والثورة الشعبية. هذه النظرية لم توافق الرجعيين السياسيين الذين فكروا في إقصاء هذا اللاعب المبدع خارج الحلبة.
في تجربة العلي، نرى أنّه قدم أشكالاً أقل جمالاً مما هو متوقع، وهي مرتبطة من الناحية الرمزية بموضوعه وشخوصه السلطويين والمتسلقين المرتخين والمنتفخين، في حين أنّ كلماته كانت قوية وقامعة وتحجّم أصحابها، بل تفاجئ الجميع بصداها وصدى قوتها التي تعشّش في المخ لفترة طويلة. جمله الطويلة التي امتاز بها، كانت ثقيلة العيار، تقترب من لغة الشارع وأسلوبه اليومي في التعبير عن انفعالاته ورفضه للواقع. ما قام برسمه نقله من الشارع الى أماكن أخرى، كالصحف لتعود الرسوم إلى الشارع. في مفهوم الرقابة التي تتبع نظاماً سلطوياً أو حكومياً يفرض شروطه وأدواته على المواطن، استطاع العلي أن يفكّك هذا الوهم، ويشكّل هو الرقابة الأخلاقية والوطنية والسياسية على السلطة نفسها، وسلطة الفنان هي الشعب. لم يكن فقط يمثل الفلسطيني رغم مباشرة أعماله في الوضع الفلسطيني، بل كان أيضاً يتحدث عن أي كادح في الأرض، عن أي متشرد يفتقر إلى الوطن. هذه العناصر المشتركة بين سكان الأرض وبما تحمله من بعد إنساني ووطني، عملت على ترسيخ أفكاره واستقبالها من المتلقي، كمعلومة مبكية مضحكة لكثرة آلامها. كانت تشكل متنفساً جماهيرياً ومنبراً للصوت الحر والواضح.
مقابل القيمة الفنية والسياسية التي قدمها العلي، عمل على وضع ملامح للهوية الفلسطينية، وتقديمها إرثاً فكرياً وبصرياً ساعد في وضع أرضية متينة للبناء الاجتماعي الذي تشرّب من أعمال العلي بشكل جيد انعكس بدوره على العائلة واستثارة همتها وتحضيرها للمرحلة المقبلة من تحرير الوطن، وقد كانت بدايتها في الانتفاضة الشعبية عام ١٩٨٧. كان هناك استمرار في شحذ الهمم واستعدادها للمرحلة المقبلة.
أعمال العلي قدمت على نحو عصري. رغم تجاوز أحداثها 25 عاماً، إلا أنّها تروي حكايتها إلى الفترة الحالية والمقبلة. هناك العديد من رؤاه التي لم تتحقق حتى هذه المرحلة، بل هي آتية، وهذا يعني أنّ حياة ناجي العلي لم تنته، ولم تمت، هو حي من دون أدنى شك. نجد أنّ كثيرين يعودون باحثين عن رسوم العلي ليوافقوها مع الحدث. العديد من الأشخاص يكتشفون أعمال العلي، فيفاجأون بمراقبته لنا لهذه اللحظة. هو يشعر بنا، ويقول لنا ما علينا فعله.
يعدّ العلي منظّراً بصرياً، على المستويين الفلسطيني والعربي، والسؤال: لو تحررت فلسطين، فهل أنّ أعماله ستنتهي؟ وهل أعماله فقط تخص الواقع الفلسطيني؟ لعل هذا السؤال يشكّل أزمة شعبية، على اعتبار أنّ العلي رمز فلسطيني، ولا يجوز وضعه في هذه المقارنة. لكن لتأكيد رمزيته، سنجد أنّها لن تنتهي، لأنّه قدم فناً ناضجاً وصالحاً لكل مكان وزمان. والحال العربي أصلاً يتشابه، أكان بتعرضه للاحتلال المباشر كما في فلسطين، أم الاحتلال غير المباشر وما تمثله الحكومات العربية. وطالما أنّ العلي كان قومياً ولامس فجيعة الشعوب الكادحة، فإنّ أعماله وإن انتهى احتلال فلسطين، ستبقى كما هي في نفس المكانة والدرجة التي يشعر بها الناس هذه الأيام. سنجد أنّ العديد من الرسوم عبرت عن المحيط العربي، أكان في مصر أم الخليج، أم منطقة الشام. بقي راصداً للتطورات التي تتجه بها السياسة العربية ولا تزال حتى هذه اللحظة تعاني من تبعيتها للنظام الرأسمالي والصهيوني، وإحكام قبضته على الاقتصاد والثقافة العربيين، وفرضه سياسة التخلّف على المنطقة العربية.