في «شراع في عيون مستديرة» (تعاونية النور الأُرثوذكسيّة للنشر والتوزيع ـــ 2012) يكشف أسعد قطّان عن تجليات أفكار المطران جورج خضر وابتكاراته في الدين واللغة والفلسفة. الكتاب الذي قدم له أديب صعب، شُغل في إبراز معالم الفكر الخضري وأنواره. ها هو رجل الدين المسيحي لا يتعب من توسيع دوائر الجدل بين المسيحية والإسلام، كأنه آتٍ من أيقونة قديمة تعبر العالم من نور إلى نور. لغة الكتاب، شديدة الكثافة، وبتكارية، تنم عن مدى إلمام صاحبها بجماليات مباهج الضاد. الكاتب الذي يشغل حالياً كرسي اللاهوت الأرثوذكسي في جامعة «مونستر» (ألمانيا) سعى في دراساته الموجزة إلى العبور إلى أفكار مطران جبل لبنان، مسلطاً الضوء على ذاك السجال اللطيف بين خضر والإسلام، وبينه وبين الغرب واللغة العربية التي أحبها.
عبر الكلمة بما تحمله من دالّ حضاري/ احتوائي وإيماني، صنع جورج خضر لاهوتاً مسيحياً من نوع آخر، يمكن أن نطلق عليه لاهوت العارفين المتحابين. وتحت عنوان «الصليب بوصفه إسلاماً لمشيئة الله»، يبرز قطّان دلالات الصليب عند خضر في سياقه الثقافي الإسلامي، وذلك في إطار حوار نقدي ينجذب ويتباعد، إلا أنه دائماً لا يستخدم سوى لغة الكشف.
وكما خلص الكاتب، فإنّ خضر لا يستخدم الإسلام للدلالة على دين المسلمين في بعده الرسمي، بل لدعوة الإنسان إلى أن يكون مطيعاً لله مُسلماً ذاته إليه بلا قيد أو شرط، فماذا يعني إسلام المسيح؟ يرى خضر أنّ موت يسوع «يُعد عن حقٍّ إسلاماً؛ لأنّه أطاع الله طاعة مطلقة»، لكنه لا يكتفي بذلك. المطران الذي شُغل بمصلوبه في أفقه الإسلامي، فتح سجالاً لطيفاً مع المسلمين الذين شككوا بموت الناصري على الخشبة. هو يرى أنّه بالنظر إلى المصادر المسيحية والوثنية العائدة إلى القرنين الأول والثاني، لا يمكن إنكار هذا الحدث التاريخي. لا يهدف خضر ــ كما يبرهن الكاتب ــ إلى تسجيل نقاط التعارض بين مسيحيته والإسلام. بكثير من الهدوء والابتكار، يجادل الدين التوحيدي ويتلاقى معه تارةً، وينفصل عنه طوراً من دون أن يقطع حبل الودّ
التفاكري.
في دراسته لفكر خضر، اعتمد الكاتب على مصدرين أساسيين: مجموع المقالات التي نشرها المطران على مدار سنوات، وكتابه «لو حكيتُ مسرة الطفولة» ومصادر أخرى. الكلمة بدالها المسيحي، شكّلت المحور الذي تدور حوله تجليات الفكر الخضري. وهنا يعمل قطّان على تظهير خاصيتين كاشفتين: الأولى تشديد خضر على التقاطع بين القيم المسيحية والقيم الإسلامية، ودعوته المسلمين إلى تبني مقاربة تفسيرية للقرآن، أي محاولة التوفيق بين الوحي والعلم، ما يتطلب دينامية تفسيرية تضع النص الديني في سياقه التاريخي. ولعل الخاصية الثانية لهذه الدعوة تقترب كثيراً من الخلاصات التي تقدم بها بعض المفكرين العرب الذين شُغلوا في تطبيق العلوم الحديثة على الإسلام المصدري، وفي طليعتهم محمد أركون ونصر حامد أبو زيد اللذان طبقا الهرمينوطيقا أو الفسارة ـــ كما يفضل قطان تسميتها ــ لفهم أصول النصوص في بعدها الزمني. ومن معالم أفكار جورج خضر المسكون بمشرقيته وإسلامه لله، تلك المحاولات الدؤوبة للمزاوجة بين «تأنّس اللوغوس وإنزال القرآن الكريم» كدينامية تجسّد. والأهم عنده، كما يلحظ الكاتب، ليس «مجرد مدّ الجسور» بين «الكلمة» والمصحف، بل «ليقرب فكرة تجسد» اللوغوس في المسيحية «من مدارك قرائه المسلمين ليجعلهم أكثر إحساساً بالأسئلة المفتوحة التي لا تحظى بجواب في اللاهوت الإسلامي التقليدي».
إسلام جورج خضر بما يعنيه من تسليم مطلق لمشيئة الله وعشقه للغة العربية وجماليات النص القرآني، دفعه إلى الأخذ والمطابقة والمقارنة والاستشهاد في كتاباته بالعديد من الآيات القرآنية، إن بشكل مباشر أو غير مباشر (وأحياناً بالتورية) ليس على مستوى الاقتباس من النص فحسب، بل أيضاً لجهة قواعد اللغة العربية التي امتاز بها القرآن. وهذا ما يدفع الكاتب إلى القول إنّ خضراً من أكثر الكتّاب العرب المسيحيين استلهاماً للنص الإسلامي. لمطران جبل لبنان حفرياته أيضاً. ابتكر مجموعة من الكلمات والمصطلحات الخاصة به. وهنا يفرد قطان ملحقاً للنحت اللغوي الخضري، ومن بين الكلمات التي نحتها صاحب «سفر في وجوه»: المصلوبيّة (التي تشير إلى حال من رفض لمجابهة العنف بالعنف وترمز بدورها إلى كل البشر المتألمين) والمَوحى (أي مكان الوحي) والضيائية والآخَريّة والاختلاطية والمحبوبية (كفعل تلقٍّ) وغيرها الكثير.
يحاول قطّان استجلاء الموقف الخضري من الثقافة الغربية الحديثة، ويركز على ثلاثة مرتكزات: أولاً، العقل النقدي والموقف العام من الأفكار والسلوكيات. وثانياً، مركزية الفرد بوصفه ذاتاً مفكرة، ما قد يولّد أشكالاً من الفردانية من دون أن ينفي ذلك وجود البنى الجماعية وأهميتها. وثالثاً، الديموقراطية كنظام سياسي يقوم على قاعدة العقل النقدي والاحتكام إلى الفرد. خضر المعجب بالعقل النقدي الغربي الحداثوي كعقل يجادل الإنسان وعالمه ومحيطه، يسجل على الخطاب الغربي مُضيه في قتل الإنسان بعدما قتل الله، كيف لا يكون هذا وهو المسكون بالإنسانية جمعاء؟ يدرج قطّان علاقة المطران خضر بالقارة الأوروبية في إطار «الجذب والنفور كما يحدث بين العاشقين».
هذا العشق والابتعاد في آن واحد يتجلى في مقاربة المطران للحداثة الغربية، وفي سجاله اللطيف مع الإسلام أيضاً، بعدما شكل رافداً من روافد ثقافته. وأهمية هذه الميزة الخضرية أنّها تقترب من الآخر وتنجذب إليه بقدر ما تبعُد عنه لتدنو من جديد.
يطالب قطّان بوضع سيرة علمية للمطران، وخصوصاً أنّ سفره «لو حكيت مسرة الطفولة» لا يقترب من السيرة الذاتية، وإن كشف عن بعض الإضاءات. لكن الأهم من عملية الجمع والتدوين، أن خضراً كما يكشف الكاتب، شكّل محط اهتمام الباحثين. على سبيل المثال، فالطالب الأزهري محمد عبد الفضيل عبد الرحيم يعدّ أطروحة لاستخراج مفهوم الحرية الدينية لدى خضر بالمقارنة مع المفكر الإسلامي محمد سليم العوّا، في حين أن الكاهن خليل شحادة يتحرى كيفية معالجة المفكر السوداني حسن الترابي مسألة العنف مقارناً إياه باستنتاجات خضر.
رغم أنّ «شراع في عيون مستديرة» لا يتجاوز 150 صفحة، استطاع قطّان استنطاق أفكار خضر والبوح بخصائصها، وتحديداً عندما يفكك لغة المطران وابتكاراته اللغوية، وهو لطالما انجذب الى القرآن محاوراً ومحللاً ومبتكراً وناقداً محباً.