لا تنتمي نصوص جمانة وهبة إلى النادي الرسمي أو الاحترافي للكتابة الأدبية. لا نقرأ في باكورتها «أنا حيوانٌ منوي» (الفارابي) شعراً صافياً أو نصوصاً سردية ذات هوية واضحة، ولكننا لا نستطيع تجاهل النبرة القوية والمُعدية التي كُتبت بها هذه النصوص، ولا الخلاصات الذاتية التي تتحرك في داخلها. الكتابة هنا هي خليطٌ من التأملات الشخصية المنضوية في مناخات الشعر والخواطر والرغبة في قول الأشياء كما هي تقريباً. كتابة متخففة من متطلبات الحذف والاقتصاد والمجاز، وذاهبة إلى المعاني المستهدفة من دون الانصياع لقوالب أو وصفات أسلوبية محددة. توصيف كهذا يقترح طريقةً ما لقراءة الكتاب، من دون أن يترافق ذلك مع مديحٍ جاهز أو هجاء مسبق. توصيفٌ قد يبدو فضفاضاً على رغبة الكاتبة نفسها في أن تكون الكتابة مسألة شخصية ومزاجية، وأن لا تأتمر بشروط الانتماء إلى جنس معين. هكذا، يصبح نشر هذه الكتابات ذاتها حدثاً مؤلماً وجارحاً: «كم هو غريبٌ أن أنظّم أحاسيسي في كتاب، وألصق دموعي وابتساماتي في مقاطع منظمة من أجل أن تطلع عليها لجنة في دار نشر. كم هو موجعٌ أن أراني منتهكة».
كان في استطاعة الكاتبة أن تضغط المقطع أكثر، وأن تتجنب الشرح الزائد، لكنها شُغلت بإيصال الفكرة والمعنى أكثر. ممارسة مزاجية ومسترخية كهذه تسري في كل نصوص الكتاب، حيث تصبح القراءة محكومة بالتفريق بين الأفكار والاستعارات الجيدة وبين ما عَلِق بها من شرحٍ فائض أو استرسال في غير محله. هكذا، وداخل مساحات وسطور كثيرة، تلمع صورٌ مثل «نفسي حزينة كالمدن/ مثلها لا تخرج عن حدودها»، و«أهوى الركض/ خلف ما لا تراه عيناي» و«الديكتاتورية هي القتل علناً/ الديموقراطية هي الاقتتال علناً»، و«تنازعتُ مع العصافير على الحق في ملكية الفجر/ فربح المؤذّن». بينما تتمدد الفكرة داخل إطارٍ أوسع مثل «لا شيء يكسر هذا السكون سوى ارتعاشة عصفورٍ في مكان بعيد/ فوق غصنٍ/ فوق ثلجٍ/ هناك/ عند شجرة عارية»، أو«محتارٌ هو هذا الصباح بين أن يكون أوروبياً أو شرقياً، خريفياً أو صيفياً، أو أن يبقى في خلوته لا يتقدم نحو الظهيرة ولا نحو الليل». إلى جانب ذلك، يضم الكتاب نصوصاً تُستعاد فيها ذكريات مؤلمة عن استشهاد الأب، ومرض الأم، ومحاولة انتحار فاشلة، وتأملاتٌ في الطبيعة، وعملها المضني على لوحات الفسيفساء التي تزين الصفحات الأخيرة من الكتاب: «مثل قطعة بازل لا تلائم مكانها/ يعاني مني المكان»، وعن أشلاء أطفال «تتطاير من شاشة التلفزيون وتستقر فوق سجادتي»، وعن «بيانو لا يسأم من كونه بيانو حتى لو كان في بيت مهجور». صور ومقاطع لافتة حاضرة إلى جوار صور ومقاطع مماثلة أو أقل جودة منها، ولكنها مكتوبة بلغة مسترسلة قد لا تجذب قراءً متطلّبين يهمهم أن تُنجز الكتابة بأقل ما يمكن من الكلمات. هناك رغبة مسبقة وملحة لدى القارئ في أن يعرف هوية ما يقرأ، وعندما لا يتلقى هذه الهوية بسرعة، تصبح عملية القراءة مضرّة به وبالنص المقروء أيضاً. القصد أن الكاتبة مدعوّة إلى تجنيس نصوصها بطريقة ما، والإيمان بأن ذلك سيعزز الأفكار والصور التي تبرع في اصطيادها، بدلاً من حضور هذه الأفكار والصور مع مسوّداتها واستطراداتها.