تحت عنوان «موت الأبد السوري ـــ شهادات جيل الصمت والثورة» (دار الريس ـــ 2012) يكرس محمد أبي سمرا عمله للكشف عن تجارب حياتية لسوريين عاشوا مخاضاً مزدوجاً، في مجتمع مكتوم في السابق ومنتفض في الحاضر. في هذه الشهادات الحيّة، يسعى الروائي اللبناني الى استجلاء سِير أشخاص بوقائعها وإحداثياتها ضمن زمنين متناقضين: زمن الكتمان وزمن كسر الخوف الأبدي. أربع من الشهادات التي دوّنها صاحب «الرجل السابق» تعود إلى سوريين خرجوا عن هاجس الصمت، تضاف اليهم شهادة ناشط سابق في «التيار الوطني الحرّ» ذاق تجربة الاعتقال في أحد سجون الاستخبارات السورية في بيروت. السير المدونة قبل الانتفاضة السورية وبعدها لا تلامس المنطقة الرمادية. كل شيء فيها يدل على تمرد ذاتي على حكم «البعث»، الذي حوّل السوريين الى كائنات هجينة، صامتة، لا تجرؤ على البوح بمكنوناتها حتى في السر.
أهمية الشهادات أنّ جزءاً منها يحمل التكوين الداخلي للمجتمع السوري بعد سيطرة البعثيين على الحكم. وإذا كان المؤشر السياسي الذي عبّرت عنه هذه السير الحية القادمة من جيلي الكبت والانتفاضة، دالاً وكاشفاً، فإنّ الأهم أنها تسلط الضوء على البعد المجتمعي والثقافي والديني في جمهورية اعتادت لجم كل الأصوات المعارضة، الباحثة عن فضاء أرحب من حرية، فقدها السوريون على مدار أربعين عاماً. احتلت مجزرة حماه (وقعت هذه المجزرة عام 1982 إثر الصراع بين النظام وحركة الإخوان المسلمين وأدت الى وقوع آلاف الضحايا)، موقع الصدارة في بعض الشهادات، الجميع يهجس بها. والأهم أنّهم لم يقطعوا مع هذه الحقبة الدموية، التي لم تفارق الذاكرة الجمعية السورية، فغدت بصمة لا تختفي إلا بالموت. تعبّر الشهادات الى حد كبير عن أزمة مزدوجة: أزمة «البعث» الذي جعل سوريا سجناً كبيراً عاجزاً عن استيعاب التجارب الديموقراطية، وأزمنة المجتمع الموؤود. لا يكتفي الكاتب بتسجيل الشهادات السياسية لهؤلاء الأحياء الذين عاصروا جيلي الصمت والانتفاضة، وشارك بعضهم فيها، إذ يحاول قدر المستطاع استنطاق الآثار المترتبة على مجتمع فقد الشعور بما يجري حوله، وتحول الى كيان قلق وخائف من الاعتراض السياسي. هذا المعطى يدفع قارئ الكتاب الى طرح سؤال مركزي: ما الأخطر عند الأنظمة المنغلقة، تكميم أفواه المعارضين أم مؤثرات الاستبداد الأبدي على الجماعات والأفراد والثقافة والدين؟ ثمة مفصل أساسي تبرهن عليه تلك الشهادات، هو تحويل المجتمع السوري الى مجتمع يخاف الآخر بقوة الإيديولوجيا وقوة تفكيك الهوية الوطنية... فكيف يمكن إعادة الالتحام بين مكوّنات الشعب السوري، الذي أُصيب بصدمتين جرحيتين، قد تبدوان منفصلتين زمنياً، صدمة المصادرة الأبدية بما تحمله من مؤثرات سلبية على بنى المجتمع والدولة، وصدمة تعامل النظام مع حركة الاحتجاج التي بدأت في آذار (مارس) 2011.
عبر الشهادات التي كتب عنها وسجلها وأصغى اليها، يكشف صاحب «بلاد المهانة والخوف» عن دوائر الخوف في المجتمع السوري المكبوت الذي لا نعرف عنه نحن اللبنانيين الكثير. حالما أدلى الشاهد الأول بروايته، وهو أكاديمي سوري _ لبناني يدرّس في جامعة «شيكاغو»، وأمضى سنتين دراسيتين في جامعة «حلب» أستاذاً زائراً منتدباً من جامعته الأميركية، حتى تجاوزت الشهادة بُعدها السياسي المُضمر، لتزيح النقاب عن أحوال المجتمع السوري الخائف. الجامعة هنا تنقل المأزق المجتمعي والثقافي الذي صنعه النظام تحت شعار «لا صوت يعلو على صوت البعث». الشهادة الثانية تعود الى لبناني من مؤسسي «التيار الوطني الحر»، الذي خاض معركة ضد الوجود العسكري والأمني السوري في لبنان. وفي هذه الرواية ينقل الراوي يوميات اعتقاله عام 1994. فعلامَ تدل شهادته؟ قد نكتفي بإزاحة الستار كما يقول الشاهد عن مقولة رددها أحد الضباط من الذين حققوا معه «سوريا الأسد قدر لبنان» ونترك لقارئ الكتاب الحكم.
الشخصيات التي حاورها ودوّن تجربتها الكاتب تبدو الى الحدود القصوى، شخصيات مدمنة الخوف، بالمعنى النفسي والاجتماعي. وباستنثاء شهادة الأستاذ الجامعي الذي هجر وطنه ولم يعد اليه بعد، يلاحق هذا الإدمان أصحاب السِّير، الذي ترافقه معارضة صارخة آتية من عمق السجن السوري الكبير، وهؤلاء تنقلوا بين سوريا ولبنان، إلاّ أن متاهات الرعب رافقتهم وتركت آثاراً كثيرة. إلا أنّ القارئ يعجز في الكتاب عن فصل الروايات التي أدلى بها الأاشخاص وبين حدود تدخّل الكاتب في النصّ. كما أنّ هذا الأخير يركز على الجانب المذهبي الموجود حسب الشهادات، كما لو أنّه يحمّل طائفة معينة مسؤولية ما يجري من دون أن يقيم تمييزاً بين سياسة النظام والطائفة العلوية نفسها.
ينقل الكتاب بعض خصائص المجتمع السوري، فالشهادات لا تكتفي بالحديث عن تجربتها الشخصية. ثمة اختلاط بين الذاتي والعام، بين الخاص والمشترك، ما جعل الروايات تمثّل عينة صغيرة لمجتمع أُجبر على التقوقع بفعل عاملين اثنين: محاصرة الاعتراض السياسي والاجتماعي عبر المنظومة الأمنية، وتحويل السوريين الى كائنات بشرية يسكنها الخوف حتى في عزلتها. فما هي مؤشرات العزلة؟ لعل الأخطر بينها كيفية تعامل النظام السوري مع مكونات المجتمع بتعدده الديني والمذهبي، تعامل أقل ما يُقال عنه إنه تفكيكي.
وبصرف النظر عن مؤيدي الانتفاضة السورية ومعارضيها، وعن مآلات الصراع في سوريا وعليها، تعكس الشهادات ـــ كما نقلها الكاتب ــ في المرتبة الأولى أزمة النظام مع نفسه ومحيطه ومجتمعه ومكوناته، وتنذر بما هو أعظم من الانتفاضة نفسها، سواء نجح السوريون في إسقاط الأبد السوري (الأبد له معنى المقدس/ المتعالي، المعنى الإلهي الذي لا تقوى قوة البشر على مخاطبته) أم لم ينجحوا أم أجروا تعديلات عليه.
الجرح الذي يعانيه السوريون أخطر من المتوقع، ولا نهدف في مراجعة هذا الكتاب الى تسجيل موقف أو رأي، لكن من المهم طرح الأسئلة التالية: كيف يمكن أن تلتئم الجراح السورية بأبعادها المجتمعية والدينية؟ وهل سيستعيد المجتمع السوري الثقة بنفسه؟ أم أنّ العنف المتمادي سيطبع ذاكرة الأجيال القادمة، قبل أن تتصالح مع ذاتها ومع الآخر؟ والى أي مدى بإمكان السوريين إحداث القطيعة مع الماضي القريب والواقع الدامي؟ وأي آثار سيتركها العنف الثنائي والمتبادل؟ الثابت أنّ الصدمات الجرحية التي تعرضت لها غالبية الفئات السورية، مع الأبد أو من دونه، تحتاج الى أجيال قبل أن تُشفى. الحداد المجتمعي لا يُعاش على الحلم المفقود/ المنشود فحسب، بل يتجذر في رؤية الجماعات بعضها إلى بعض، والى تاريخها وحاضرها ومستقبلها، فيصبح الكل خائفاً من الكلّ.