لعلّه قدر الفلسطينيين أن يعيشوا في دوامة لا فكاك منها من القتل الممنهج والنضال الذي غدا نمط حياة. لعله قدر أُسقط عليهم منذ الجريمة الكبرى يوم سرقت أرضهم لتمنح على طبق من دم لشعوب أنتجت أكثر الأنظمة عنصرية في التاريخ الحديث، بحجة أنّ أساطير الأولين وعدتهم بأرض غيرهم. غير أنّ للفلسطينيين عادات متأصلة فيهم. هم وإن كانوا عاجزين عن الانتصار، نراهم لم يتعلموا بعد «فلسفة» الاستسلام. هذا ما رآه العدو فيهم، وهذا أيضاً ما أراد أن يريه شوقي الماجري إلى العالم.
«مملكة النمل» الذي ينزل قريباً إلى الصالات اللبنانية، قصيدة سينمائية فيها من الشعر ما لا يتسعه فيلم، ومن العاطفة ما لا يصلح لعمل سينمائي. هو لا يوثّق نضال الفلسطينيين بقدر ما ينسج عنه أساطير تدغدغ القلب بدل العقل. يقدّم السينمائي التونسي عملاً شعبوياً قد يرضي الملتزمين بالقضية أكثر مما يرضي النقاد. لكن من قال إنّ نجاح الأفلام يرتبط برأي النقاد إذا كان لشباك التذاكر رأي آخر؟ لعلّ هذه الفكرة هي خط الدفاع الأول لدى صاحب «الاجتياح».
هو النضال المتوارث من جيل الى جيل. هو الموت المبكر الذي يفرض على الآباء دفن أولادهم بعكس ما تفرضه تقاليد الحياة. هو غزل للقضية الحية أبداً من انتفاضة الى أخرى. هذه هي قضية الفيلم الذي يتحدث عن أسرة مناضلة دفاعاً عن الوجود في أرض تقتطع شبراً تلو شبر، وحلم يسرق ليلة تلو ليلة. يتناول قصة عائلة توارثت النضال مصيراً كما يتوارث النمل الجهاد اليومي لتأمين الغريزة الأولى المتمثلة في الصراع من أجل البقاء. الرجل يضع حياته على كف المقاومة، يتخذ السجن والمطاردة خبزاً يومياً، يسلم ابنه بيديه الى الانتفاضة. فيما تستسلم الزوجة لقدرها بعدم الاستسلام. أما الجد فيعيش تحت المقابر ليجمع بقايا عظام رفاقه لتؤنسه في مملكته المبنية في باطن الارض.
غير أنّ الفيلم يغرق في دوامة المبالغات. يتشبع بما يفيض من أساطير البطولة المطلقة كما اعتاد الخيال العربي أن يكتب عن مغامراته. لا حياة للعائلة خارج الصراع، لا يوميات عادية يعيشها كل مجتمع حتى المجتمع الفلسطيني. بدلاً من ذلك، حشا المخرج فيلمه باللامنطق الهوليوودي: قذائف تسقط على بعد أمتار من محتفلين بعرس، فيواصلون عرسهم من دون أن يصاب أحد أو حتى تتسخ ملابسه. طفل شهيد يبتسم لصديقه في لقطة أريد لها أن تكون رمزية فبدت كاريكاتورية. يغلب التكلّف على العمل بدءاً من السيناريو (كتابة الماجري والمؤلف خالد الطريفي) مروراً بالأدوار وصولاً إلى تصوير المشاهد. أخطاء تعتري مشاهد الفيلم، فلا تسلسل منطقياً في الأحداث ولا ترابط في عقدة القصة المتشعبة تشعباً يرهق الجمهور. ولعلّ أكثر ما أجاده صاحب «هدوء نسبي» هو اختيار فريق قدير من الممثلين على رأسهم الأردنية صبا مبارك التي قدمت دوراً تستحق عليه جائزة على أقل تقدير، فضلاً عن الممثل جميل عواد بأدائه اللافت.
المخرج الذي عرفه الجمهور من خلال أعماله التلفزيونية التي لاقت نجاحاً كبيراً، يدخل معترك الافلام الطويلة من دون أن يتحرر من أسلوب المسلسلات، وهذا ما يفسر تباطؤ الأحداث والسعي الى اسقاط كليشيهات على الفيلم كان في غنى عنها. نرانا نستعيد أسلوب الانتاجات اللبنانية ـــ بعللها الكثيرة ـــ كفيلم «خلة وردة» ومسلسل «الغالبون» وغيرهما من الأعمال التي لم تقارب موضوع المقاومة مقاربة موضوعية بل أرادتها معجونة بغلوٍّ لا طعم له، فبدت المواقف مصطنعة ومزيفة. مع ذلك، يُحسب لـ«مملكة النمل» أنّه نجح في تمرير رسائل خرجت من السطحية التي تسيطر على الفيلم أهمها أنّ المقاومة هنا ليست إسلامية والبطل لا يتلو معجماً من الآيات قبل كل عملية.
من الناحية التقنية، قدّم الشريط صورة جميلة جداً عن فلسطين، صنع أرضاً افتراضية تحت أرض الواقع، فأظهر الأرض المحتلة كما لم نرها من قبل. لا ازدحام سكانياً، لا فوضى في الشوارع والابنية، بل أرض نضرة تشبه ما تصوّره مخيلة فلسطينيي الشتات الحالمين بالعودة، فضلاً عن انتاج ضخم جداً يمنح الفيلم بعض الاثارة، وقد ترجم ذلك باشراك عدد من الآليات العسكرية والمروحيات فضلاً عن المؤثرات البصرية والصوتية.
كان يمكن للفيلم أن يكون أفضل بكثير مما بدا عليه عبر تجنّب المخرج للكثير من الأخطاء... فهل ينصت شوقي الماجري ويضع عاطفته جانباً، ليصنع شريطاً يحاكي الواقع ويبعده عن السطحية والكليشيهات؟ لا شك في أنّ مَن قدم مسلسلات كـ «الاجتياح» و«أبو جعفر المنصور» قادر على أكثر من ذلك.

* «مملكة النمل» ابتداءً من 20 أيلول (سبتمبر) ــ صالات «أمبير» ـــ
للاستعلام: 01/616600



سيرة

ولد شوقي الماجري عام 1961، ودخل السينما من بوابة الأفلام القصيرة. أنتج ثمانية بين تونس وبولونيا، غير أنّ شهرته الكبرى بناها في عالم التلفزيون من خلال عدد من الأعمال التي نالت شهرة واسعة وحصد عنها جوائز عدة أبرزها «ايمي اوورد» التي نالها عن مسلسله «الاجتياح» الذي أخرجه عام 2007. علماً أنه دخل بيوت المشرق العربي أولاً من خلال مسلسل «اخوة التراب» قبل أن يركز على الأعمال التاريخية كـ«أبو جعفر المنصور» و«عمر الخيام» و«الأمين والمأمون» وبعض الأعمال الروائية كـ«الارواح المهاجرة». أسهم الماجري في اطلاق صبا مبارك التي تزوجها فشاركته عدداً كبيراً من اعماله قبل أن ينفصلا. غير أنّ ذلك لم يفسد للعلاقة المهنية قضية، وما «مملكة النحل» سوى دليل على ذلك. أخرجه عام 2010 وصوّره بين تونس ومصر وسوريا حيث يقيم، غير أنّه تأخّر في إطلاقه بسبب الاضطرابات في عدد من الدول العربية.