الجزائر | يقف المخرجون الجزائريون في المهجر على مفترق طرق. بين بلد المهجر (فرنسا) الذي يفتح لهم آفاق الإبداع ويطلق مخيلاتهم ليتصوّروا ويصوروا الواقع كما يرونه أو كما يريدونه، وبين الانتماء إلى وطن بهويته وثقافته وتراثه مع الحاجة إلى التعبير عن همومه بكل حرية من جانب آخر؛ ثمة مفارقات عديدة تضع الإنتاج السينمائي خارج حدود الجزائر تحت المجهر، ومحل استفهام واتهامات تصل إلى درجة اتهام هؤلاء المخرجين بالمتاجرة بهموم الوطن.
السؤال الموجه إلى العديد من المخرجين الجزائريين: هل الهجرة تأتي بسبب فقدان فضاء الحرية للتطرق إلى هموم الوطن من دون قيود؟ أم أن انعدام الإمكانات هو التي يدفع السينمائي الى البحث خارج الحدود الجزائرية؟ أم هي رغبة في الانعتاق من التابوهات الثلاثة: الدين والسياسة والجنس؟
لا يبتعد المخرج فريد بن تومي، عن الفكرة القائلة بأنّ التضييق ووضْع الإبداع في قوالب جاهزة قد أثرا على الفن السابع في الجزائر بعد الاستقلال، ما دفع بعض السينمائيين إلى الهجرة. بالنسبة إليه، كانت الأعمال السينمائية التي عرفتها الجزائر منذ بداية الستينيات إلى نهاية السبعينيات، في غالبيتها ذات طابع سياسي ودعائي في الدرجة الأولى، «فقد كان المخرج موظفاً لدى الدولة ويقوم بما يُطلب منه، من دون مراعاة متطلبات المشاهد الجزائري ودرجة تقبله للعمل أو مدى ملامسة هذا العمل لاهتماماته وواقعه». بالتالي، يقول بن تومي «فقدت تلك الأفلام تواجدها وسط شرائح المجتمع، خصوصاً الشباب، فعدد قليل منها استطاع جذب اهتمامهم آنذاك». وغرقت السوق الجزائرية في تلك الفترة بالأفلام التاريخية، حول حرب التحرير الوطني، وبعض الزعامات التي تتوافق مع توجه السلطة. هكذا، لن نجد إلا قلة من الأفلام التي تركت بصمتها في المشهد السينمائي الجزائري، كشريط أحمد راشدي «الأفيون والعصا»، و«وقائع سنين الجمر» لمحمد لخضر حامينا، و«عمر قتلاتو» للمخرج مرزاق علواش. في المقابل، اتجه المجتمع الجزائري في السبعينيات نحو الأفلام الهندية وأفلام «الويسترن» وحتى الأفلام اليابانية التي غلبت عليها الفنون القتالية. وعلى رغم أنّ العمل السينمائي في الجزائر قد تخلص بعد السبعينيات من هيمنة الفكر الثوري أو التاريخي المسيّس بحسب بن تومي، إلا أنه دخل نفقاً مظلماً من خلال استغلال الأحداث التاريخية من طرف بعض الجهات، وتوظيف ذلك في خدمة مصالحها. لذلك لا نرى اليوم مثلاً، في الوقت الذي تحتفل فيه الجزائر بالذكرى الخمسين للاستقلال، ما يعبّر عن هموم الشاب المبدع الجزائري ورؤيته إلى التاريخ والأحداث السياسية. وإذا حاول المخرج أن يتطرق إلى الحاضر من نظرة تاريخية، فعليه أخْذ ترخيص وموافقة من وزارة الثقافة، كما يفرض «قانون السينما» الجديد الذي يرى فيه كثيرون «عودة إلى تقييد الإبداع وتكميم الأفواه». وعلى رغم توجه الجزائر نحو التعددية السياسية والإعلامية في التسعينيات، وبالتالي نحو تعدد الرؤى والتوجهات السينمائية، وبداية ظهور مؤسسات الإنتاج السمعي والبصري الخاصة، إلا أن مشاكل أخرى تتعلق بمصادر التمويل وآلياته طفت إلى السطح. هكذا، بقي التحرر من قيود الدولة بعيد المنال، بسبب عدم وجود هذه المصادر وانعدام صناعة سينمائية حقيقية. هكذا، ظهرت حالة من الإبداع السينمائي، سمّيت مجازاً «سينما المهجر»، لأن تمويلها وإنتاجها يعتمدان على المصادر الأجنبية التي فتحت باب الحرية للسينمائيين، أو لأن العاملين فيها هم مهاجرون من الجيل الثالث. هنا، يشير المخرج بن تومي إلى الصحوة التي يعيشها شباب المهجر وإقبالهم على السينما كوسيلة للتعبير عن همومهم وأفكارهم ورؤيتهم إلى ما يدور حولهم، وما يحدث داخل وطنهم، «فالابتعاد عن الوطن لم يمنع من أن يظل الوطن متصدراً اهتماماتهم». هذا ما يطرح الإشكال الثاني: هل ما يقدمه مخرجو المهجر نابع من دراية وإحساس صادق وحقيقي بمشاكل وطن الانتماء؟ أم أنّ الأمر لا يتعدى أن يكون رؤية المنتج أو صاحب المال الأجنبي؟ هل ما تقدمه سينما المهجر يعكس حقاً طموح مجتمع الداخل وتطلعاته وهمومه ومشاكله وقضاياه؟ يقول السينمائي مرزاق علواش: «لا يوجد من يملي علي ما أقدّم، أو ما أصوّر. أنا حر في أن أقرأ مجتمعي كما أريد». ويضيف صاحب «التائب» إنّ «الابتعاد عن الوطن يمنح فرصة رؤية الأحداث من الخارج بعيداً عن العاطفة أو الدعاية والديماغوجية». ويضيف: «لا أحد يعلمني الوطنية، ولا أحد يحب الجزائر أكثر من الآخر. أنتقدُ وطني لأنني أريد له الأفضل، ولا أحد يفرض علي كيف أنتقده أو يتدخل في ما أقدمه ولو كان صاحب المال». بالنسبة إلى مرزاق علواش، فتحت له الهجرة إلى الخارج مجال التمويل وتحقيق حلمه كمخرج. يقول إنه «يتنفس السينما» اليوم بفضل الهجرة التي منحته حرية أن يعيش هذا الحلم.
من جهته، يرى المنتج والممثل أحمد بن عيسى أنّ المخرجين لم يهجروا الجزائر للإنتاج في الخارج؛ بل إن هؤلاء هم جيل من السينمائيين ممن وجدَ في الغربة الظروف الملائمة لتحويل طاقاته إلى نشاط سينمائي، بعيداً عن كل الضغوط. ومن هؤلاء، كما يسميهم بن عيسى، رشيد بوشارب، وفريد بن تومي ومرزاق علواش. ويدافع بن عيسى عن طرحه المتمثل في أنّ سبب الهجرة الرئيسي ليس الانعتاق أو كسر التابوهات التي وضعها المجتمع أمامهم. يقول «أنتم تقولون إنهم فروا بحثاً عن الحرية. نعم هناك جزء من الحقيقة، لكن ثمة تناقضاً صارخاً، إذ إن أفلاماً كثيرة أنتجت في الخارج لكنها لم تُعرض في الصالات هناك!».
المخرج مالك بن اسماعيل يرفض، من جهته، القول بأنّ المخرجين فروا إلى الغربة للبحث عن الحرية، «إذ إنّ أغلبهم وجدوا ظروف عمل غير مناسبة تمنعهم من البقاء في الجزائر، بينما تمكنوا في المهجر من التحول إلى مخرجين وممثلين كبار». ولا يوافق بن اسماعيل الرأي الذي يتهم المخرجين المغتربين بالخضوع في معالجتهم قضايا أوطانهم لأهواء أصحاب المال. يقول: «ربما تكون هذه حقيقة واقعة، لكني لا أتقبلها». ويشير إلى أنْ لا أحد يهتم بمواضيع الجزائر في المهجر، لأنها لم تعد جذابة، فالناس هناك «يحبذون الإرهاب والموت والدم، لكي تبقى الصورة هي نفسها، إذ لا تعنيه مشاكل الشباب ولا المجتمع». ولا يهتم بن اسماعيل بقانون السينما الجديد لأنّ حريته في السينما لا ثمن لها. يقول: «إذا أردتُ إنتاج فيلم، فسأفعل ذلك من دون انتظار موافقات، وهذا ما أجده في الغربة: حرّيتي».



تخوين مستمرّ

مع كل فيلم جديد ينجزه في الخارج، تنهال التخوينات والمقاطعات على مرزاق علواش المقيم في فرنسا. فيلمه الأخير «التائب» الذي شارك في برمجة «أسبوعي النقاد» في النسخة الأخيرة من «مهرجان كان السينمائي»، فتح الباب مجدداً أمام تخوينه في إعلام النظام الجزائري الذي وصف صاحب «عمر قتلاتو» بأنه «أكل غلة الجزائر ويسبّ ملتها»، كما اتُهم بأنه «جاحد لفضل الجزائر التي قدمت في الماضي دعماً مالياً لأعماله السينمائية».