«كيف لم أنتبه وهم يبنون الجدران؟ لكنّي لم أسمع جلبة بنائين ولا صوتاً قط». في قصيدة لكفافي بعنوان «جدران»، يتحدث عن شخص يجد نفسه محاصراً بين جدران لا يعرف كيف بنيت من حوله وهو لا يشعر. أما أنا فأعرف كيف بنيت حول حياتنا هذه الجدران. أجلس الآن في العتمة لأنظر إلى رام الله التي طالما وجّهتُ نحوها مشاعر غضب بوصفها رمزاً لمرحلة سياسية مقيتة: مرحلة أوسلو. في النصف الثاني من التسعينيات، أصبحت رام الله عاصمة الحكم الذاتي الفلسطيني.
بسرعة ارتُجِلَت وزارات وأكثر من ستة أجهزة أمن و«مقاطعة» يسكنها «رئيس» (سيموت مسموماً في نهاية شكسبيرية بعد عشر سنوات) و«محافظة» وفِلَل أمامها أكشاك حراسة يسكنها المسؤولون الجدد وعسكر فقراء على جنبات الشوارع. بدت كلمة «عائد» التي أصبحنا نسمعها بلا معنى تقريباً ولا علاقة لها بفكرة العودة المغروسة في وجداننا. بقي ملايين اللاجئين في أرض لجوئهم و«عاد» القادة مع بضعة آلاف من العسكر والموظفين في الإدارة الجديدة. نبتت كالفطر مؤسسات مجتمع مدني من نوع جديد، بمناسبة مطر التمويل الأجنبي الذي نزلت زخات منه لدعم العملية السياسية الجارية... «عملية السلام». مرحلة جديدة لها رموزها وقيمها طوت بقسوة مرحلة انتفاضة 1987 وكل ما تضمنته تلك التجربة الشعبية العظيمة من مُثُل وتضحيات وآمال. وكان للمرحلة الجديدة مشهدها الفني والثقافي المرتبك. محاولة كبيرة للهرب إلى الأمام، والقفز عن الوقائع على الأرض وعن استحقاقات التاريخ. نوع من الغيبوبة التي تدخلها الضحية حتى لا تشعر بالألم.
في تلك المرحلة بالذات، أي بعد أوسلو، عرفنا «الحواجز» و«التصاريح» و«طريق وادي النار» وتقطيع الأرض، ودخلتْ فكرةُ إقصائنا من الجغرافيا مرحلة جديدة. بضعة جنرالات جلسوا على طاولة ونظروا إلى الوجود الفلسطيني باعتباره سرطاناً ينبغي محاصرته. وعلى طريق معالجة الخلايا السرطانية، تمّت محاصرة كل «تجمع سكاني فلسطيني». محاصرته أولاً حتى لا ينمو وتمهيداً للقضاء عليه لاحقاً كمجتمع. هكذا نظر الاحتلال إلى «شركائه في السلام» وتولى تخطيط المدن الاستعماري المهمة. أُنشئت طرق بديلة خاصة بالمستوطنين الذين لم يعودوا بحاجة للمرور بين التجمعات الفلسطينية للوصول إلى مستوطناتهم التي ارتفعت وتيرة العمل على توسيع القائم منها وإنشاء أخرى جديدة (خطة شارون للانفصال). المشروع الصهيوني كان في ذروة جشعه في ما يتعلق بسرقة الأرض ومحو سكانها. استعملت الكيانية الفلسطينية لتدمير فكرة فلسطين وشرعنة الاحتلال، وأصبحت فلسطين تعني كل شيء إلا فلسطين. في تلك السنوات، أخذت رام الله بـ«الازدهار» كمشروع «مدينة» على طريقة عمّان. إعدام للطبيعة وغياب للتخطيط المدني وهندسة عشوائية. عمارات ترتفع ومشاريع على قدم وساق. زحف سكاني نحو رام الله من جميع بلدات «الضفة الغربية» وقراها. فرص العمل في رام الله، السلطة في رام الله وأموال «المانحين» أيضاً. في النصف الأول من القرن العشرين، كانت رام الله تُذكر في كتابات تلك الفترة كقرية تابعة للقدس، فنجد خليل السكاكيني (1878ــ 1953) يقول في إحدى مقالاته في العشرينيات و«في الصباح مررنا بقرية رام الله». أما في النصف الثاني من القرن العشرين، فيبدو أنّ رام الله توسعت بفعل النزوح إليها من لاجئي 1948، ليس في مخيمات الأمعري والجلزون وقدورة وقلنديا، بل إن قسماً كبيراً من اللاجئين دخلوا في نسيج القرية التي سرعان ما أصبحت بلدة، بجانب أختها البيرة، وأصبح لهما شيء من المركزية. كان لرام الله شهرتها كمصيف في الخمسينيات والستينيات، وخصوصاً في المرحلة الأردنية، حين وقعت «الضفة الغربية» تحت الحكم الأردني منذ بداية الخمسينيات وحتى الاحتلال الثاني عام 1967. صور بالأبيض والأسود لزيارة الملك حسين لرام الله وأغنية ريفية لسميرة توفيق شاعت أيامها: وين ع رام الله.
كان قلنديا في «زمن الأردن» كما نسميه، اسماً لمطار صغير، هو مطار القدس، كانوا يسافرون منه إلى القاهرة وبيروت وبغداد. في زمن «عملية السلام»، وفي محيط المطار القديم، صار قلنديا اسم الحاجز الذي يفصل رام الله عن العالم.
سأنسى أشياء كثيرة عن الاحتلال، لكن ساعات الوقوف على حاجز قلنديا هي مما لن أنساه. الأيام التي كان فيها الداخل إلى رام الله أو الخارج منها يُصلب في الأزمة على الحاجز. أصوات زمامير السيارات، المشاجرات، والتصميم الجهنمي للحاجز الذي يُفقد الناس إنسانيتهم بمرور الوقت. برك الوحل في الشتاء، ظهيرات الصيف القاتلة، ونمو الحاجز وتطوّر تقنياته، وقصص من عُذِّبوا أثناء محاولتهم الخروج من رام الله أو الدخول إليها.
أبداً لم تكن رام الله محظوظة. اختيارها لتكون «عاصمة مؤقتة» بعد أوسلو يشبه اختيار طفلة في الحادية عشرة لتكون أُمّاً. شكل من الاغتصاب. عنف كولونيالي آخر، ضمن مشروع كولونيالي أوسع لإعادة هندسة الهوية والذاكرة الفلسطينيتين. محاولة اختراع فلسطيني جديد، بلا تاريخ ولا ذاكرة لصالح تاريخ وذاكرة المستعمِر. جرى ضخ صورة رام الله ونفخها لاختزال الفكرة الفلسطينية فيها، لتكون «فلسطين الجديدة». ليس فقط لننسى يافا وحيفا وعكا والجليل وكل فلسطين التي احتلت عام 1948، بل حتى لتغييب صورة القدس التي جاءت مركزية رام الله المستحدثة تقويضاً آخر لمركزيتها التاريخية، وبالتوازي طبعاً مع نظام الفصل العنصري ومعالمه الفيزيائية كالجدران والحواجز وقوانين المحتل. نشأ زمن فلسطيني جديد هو زمن رام الله. وكان علينا أن نقاوم الهندسة الاستعمارية لهويتنا وذاكرتنا. أنا ضد رام الله حين يريدها الاحتلال «محمية للسكان الأصليين». ضد هذا القفص المسيّج بالجدران. سأحبها من جديد حين تسقط هذه الكذبة الكبيرة. لدي إحساس يشبه الرؤيا بأني سأمرّ يوماً قرب قلنديا وقد اختفى الحاجز والجدار، وستكون منطقة حدائق عامة خضراء آمنة ومنعشة. وسأرى امرأة تدفع عربة أطفال وليس ببعيد منها يلعب أطفال من جيل لم ير شيئاً مما رأينا.
وقتها سأحاول أن أنسى. وقتها فقط سأحاول.



سيوقّع «ركض في رام الله» في 11 ت1 (أكتوبر) المقبل في «معرض بيرمنغهام للكتاب»، كما سيُعرض في «موزاييك» في لندن في 15 تشرين الأول.