ربما كان من المغامرة كتابة رواية تستلهم «الربيع العربي» الذي لم تزل مجرياته قائمة، لأن الكتابة في وقت الحدث تخضع لتوترات اللحظة الراهنة بنزقها. اللحظة النازفة المتولدة من شارع متأجج وسلطة غاشمة لم تعترف يوماً بالبشر، فما بالك إن كانت الرواية تتحدث عن الانتفاضة السورية التي انقسم حولها الجميع، بدءاً من المثقف وليس انتهاءً بمراكز صناعة القرار الدولي؟ ليبقى السؤال: كيف يمكن روائياً اقتناص لحظة كهذه في رواية يُفترض أن تذهب نحو تقديم ما خلف الحدث، أي ما يضيء الحدث بكليته وجوانيته بعيداً عن ظواهره المولدة لانقسام كثيف لا يزال يرخي بظلاله على طاولة الثقافة العربية؟ ربما كان الانقسام العمودي والعميق الغور الذي أصاب المثقفين في نظرتهم للانتفاضة السورية، هو ما دفع نبيل الملحم نحو محاولة القبض على تلك اللحظة روائياً. لقد غامر في الكتابة عن اللحظة السورية الراهنة في «بانسيون مريم» (دار أطلس)، لتكون روايته الثالثة خلال عام وسبعة أشهر هي تاريخ الانتفاضة السورية، والأولى التي تخوض غمار الكتابة عن الانتفاضة بكل ما تعني الكلمة من مغامرة تصل حدود الانتحار كتابياً.
تمكن الملحم من القبض على أهم لحظة في الانتفاضة للانطلاق منها نحو كتابة اللحظة من دون أن تُستنزف في لحظيتها، منتقلاً بها من الراهن الزائل إلى الأبد المطلق روائياً. تكمن اللحظة تلك في أنّ الانتفاضة التي فجرها شبان سوريون أضاءت على جيل الآباء المهزوم لتخرجه من عتمة الاستبداد إلى ضوء الحرية، بما يعني الضوء من كشف للعيوب الكامنة في جيل الآباء الذي كان يبدو مقدساً.
«بانسيون مريم» يضم صاحبته مريم وثلاث شخصيات تسكن كل منها غرفة في البانسيون المنسيّ في دمشق، وهي شخصيات منسحبة من الحياة: أنيس السوري الذي اكتشف أن علمه لم يفده أمام ضابط مخابرات، ورعد العراقي الذي كان رساماً للرئيس العراقي صدام حسين، وقد بتر يده كي لا يرسم بعدها، مستبدلاً الرسم بتصميم رقع الماركات التي توضع على الألبسة الداخلية النسائية، وناصر الفلسطيني المنزوي في غرفته يمارس الجنس مع ذاته، هارباً من «خيانة وطنية» تعرض لها حين كُلف مراقبة شارون، ليقتل كل أصدقائه ويكون الناجي الوحيد.
مقابل هذه الشخصيات المنسحبة من الحياة، يقتحم المشهد شبان الانتفاضة الذين يخوضون غمار الموت والصراع مع سلطة بلغ توحشها ذروة لم تبلغها فاشية قبلاً، وهم: رضا المطلوب لكل الأجهزة الأمنية وابن الطبقات المسحوقة، وصديقه جلال، والممثلة المغمورة سوسن التي تعرضت لخيانات كثيرة، وأخيراً فرج القادم من أرياف مهمشة وقصية، وريتا ابنة التاجر الثري الذي يشارك السلطة، ويشتري السلاح ليبيعه للطرفين، ويرى في الانتفاضة استثماراً مربحاً. هو مع السلطة وابنته مع المعارضة، وكائناً من كان المنتصر سيكون له مكانه.
تبدأ الرواية لحظة دخول رضا إلى البانسيون هرباً من الاعتقال، لتشكل لحظة اصطدام بين جيل غارق في الحياة واللحظة الراهنة، وجيل متأخر عن تلك اللحظة 30 عاماً. وربما هنا يكمن المأزق السوري، لأن سحب الرواية التي تبتعد عن المباشرة في مقاربة الانتفاضة إلى ما يحصل على الأرض، سيجعلنا نشهد أن تلك المفارقة تحكم الانتفاضة وتزجها في مأزقها الذي يكاد يكون قاتلاً: ابن الحاضر واللحظة المتألقة تؤدي انتفاضته إلى إخراج جيل الماضي من البانسيون/ الموت ليضعه في مقدمة المشهد، ليبقى السؤال: هل يصلح ابن الماضي لقيادة الحاضر؟