فيلم «براءة المسلمين» حلقة جديدة في مسلسل له بداياتٌ عريقةٌ في التاريخ الديني وليس له نهاية. الكراهية الصهيونيّة للإسلام ونبيّه سبقتها ولحقتها كراهيةٌ لا مثيل لها للمسيحيّة ومسيحها ورسله وأسرته وكنيسته وشعوب المسيحيّة وفي طليعتها الكاثوليك. يكفي استعراض أفلام هوليوود، وهي المستعمرة اليهوديّة الكبرى في العالم والأكثر استعماراً للعقول والأفعل تأثيراً في القناعات، لنتبيّن ذلك.لا نقولها مزايدةً على المحتجّين والهائجين ضد الفيلم، وهو في الحقيقة تفاهة وحقارة لا تستحقّان الذكر، بل نقولها لنضيف انّ رد الفعل على مثل هذه الاستفزازات يجب أن يسيطر عليه الوعي لا الغوغاء. هل يعتقد المستاؤون الليبيّون الذين قتلوا السفير الأميركي أنّهم دافعوا عن الإسلام وخدموا نبيّه؟ هل يعتقد انتحاريو 11 أيلول في نيويورك أنّهم أعلوا رايةَ الإسلام والعروبة؟ هل يعتقد غزاة الأشرفيّة احتجاجاً على الرسوم الدانماركيّة الساخرة أنّهم صانوا كرامة الإسلام؟ هل يعتقد أيّ انتحاريّ يقتل مدنيّين أنّه يسهم في ترغيب الناس بالإسلام؟
ردود الفعل الهائجة هي ما تأمل به الصهيونيّة. والمسلمون يرتكبون تجديفاً بحقّ الإسلام ورسوله كلّما تصرّفوا بما يوحي أنّ الإسلام ورسوله من الضعف بحيث لا يحتملان تهكّم الأعداء.

■ ■ ■


الإسلام أشدّ ما يكون اليوم حاجةً إلى تظهير رشده وسماحه. وبعيداً عن الشريط السخيف السالف الذكر، نرى في القمعيّات التي تشهدها الميادين العربيّة هنا وهناك ما يُحزن. نحن من جهتنا نؤمن بإيمانِ كلّ مَن يؤمن. بالمعنى الديني وبالمعنى الفكري والفنّي والسياسي والإلحادي والعاطفي والعائلي والعشائري. المقدَّس هو أن نحترم تقديس المرء لما يقدّسه. بمعنى آخر، المقدّس هو الحريّة. وأصعب ما في الحريّة أنْ نقبل بها عند الآخر. وقد أتقن الغرب ذلك. ويجب أن يتقنه المسلمون ولو على مضض.

■ ■ ■


عظّمت الثورة الفرنسيّة مفهوم الله وأكسبته معانيَ كونيّة. كتب ديدرو عبارته الشهيرة: «وسّعوا الله!». تحاول تيّارات داخل الثورات العربيّة أن تصنع الله على صورة جهلها وتعصّبها. هوّة مخيفةٌ بين التوسيع الفرنسي والتقزيم العربي وبعض الآسيوي. إسلاميّون في مصر وتونس وغداً في العراق وسوريا ولبنان يعتدون على فنّانين وفنّانات باسم النهي عن المُنْكر. كتب أحد المعلّقين متألّماً كيف كانت بغداد قبل عقود فقط عاصمةً من عواصم الفنون والعروض المسرحيّة والسينمائيّة والغنائيّة فضلاً عن مهرجانات المربد وغيرها، وكيف صنعت دمشق صعودها المسرحي والسينمائي والأدبي بما أدهش الجميع، وكيف سحرتْ بيروتُ العالم قبل خمسين سنة وكيف أمست تخشى أن ترفع صوتها. بدأ السلفيّون يستبدّون بنا قبل أن يتسلّموا السلطة. ثوراتٌ علمانيّة سلميّة وإنتاجاتٌ دينيّة مسلّحة. انتفاضاتٌ ضدّ السفّاحين تنجب إرعاباً للمسفوحين.
كان الشاعر العراقي الاستثنائي عبد القادر الجنابي يحذّر من تعريب أيّ شيءٍ غربيّ قائلاً: «سيفسدونه!». يقصد أنّ العرب استوردوا الشيوعيّة فأجهضوها واستوردوا الرومنسيّة فَرَمَّلوها واستوردوا الأفكار القوميّة فعملوا منها أجهزة استخبارات.
اليوم هناك خطرٌ جديّ بتحويل «الربيع العربي» إلى مسلخ عاديّ ويوميّ للشعوب وإلى كونتينورات للكيانات بعد تشقيفها إلى عشرين ديناً وطائفة ومذهباً وطريقة وعشيرة، وتأليب الجميع على الجميع.
لا نتحسّر على قرونٍ غابرة بل على بضعةِ أشهرٍ سبقت وكانت غمّازة وراء الباب. لسنا غيرنا بل ما زلنا نحن. هل كنّا أوروبيّين وأميركيّين ونمنا فقمنا مطاوعة؟ هل استطعنا أن نبلف الأمم منذ مئة سنة يوم صنعنا سينما بدائيّة لطيفة تُتَبادَلُ فيها القبل ويُرى جزء يسير من عريٍ مثير وسط أجواء «الدنيا سكارة وكاس» و«اسْقِنِيها بأبي أنت وأمّي» و«رباعيّات عمر الخيام» وغيرها الكثير من أجمل ما لُحِّنَ وأُنشد في القاهرة؟ هل كنّا فنّاصين؟ أين هم أبناء أولئك الروّاد، أحفادهم، تلاميذهم، جمهورهم؟ أين المسرح التونسي؟ وأين السوري، السوري الخلّاق المذهل؟
والجمهور هل يُعْقَل أن يتحوّل من متحمّس لفتحيّة أحمد ومتعصّب لأمّ كلثوم وأسمهان وليلى مراد وشادية وسيّد درويش والقصبجي والسنباطي وعبد الوهاب ومحمد فوزي وعبد المطّلب وبليغ حمدي وكمال الطويل وغيرهم عشرات من أرباب النغم والغناء والرقص والعزف والتمثيل، هل يمكن هذا الجمهور أن يصبح أصمّ وأعمى وأرعن بين ليلةٍ وضحاها؟ هل يمكن مصر أن تتدهور إلى مصرين: مصر النجوم المكفَّرة ومصر النجوم «المؤمنة»؟
وسّعوا الله أيّها الذين يخطّطون للعيش في هذه البلاد. تضييق الله سيهشّل الناس من نواحيكم فتخلو الساحة للتذابح بعضكم بين بعض كما والله تنبئ الحاليّات والمخبآت.
وإذا صدفةً علمتم أنّكم في هذه المعركة أو تلك وفي هذه الحرب أو تلك كنتم مجرّد أدوات لتخريب بلادكم وإبادة شعبكم، هل تنتحرون؟ وماذا يفيد الإسلام إذا انتحر مفجّرو برجَي التجارة أسفاً... بعد التفجير؟

■ ■ ■


نودّ لو يخبرنا أحد من أصحاب السعادة مديري المجتمعات ورجال العصابات وأشباح الاستخبارات، أو من ألطف لطفاء الماسونيّين ورجال الدين الغامضين والذين لهم علاقات مع جمعيّات التنوير الظلاميّة أو الظلام التنويريّة ومع الألوميناتي وحرّاس الهيكل وأمناء سرّ المنشآت العنكبوتيّة «الروحيّة» وحاخامات اليهود، والمليارديريّة كارلوس سليم وبيل غيتس ووارن بافيت وبرنار أرنو، إلى ما لا نعرف من دوائر التلاعب بمصادر الرزق والطاقة والدواء، وأبطال كرة الدم ومواسم الإبادة، نودّ لو يخبرنا أصحاب الجلالة هؤلاء هل بينهم مَن سيستطيع أن يوازن سلطانه التلاعبي بقدرته على لجم جنون التاريخ؟ لأنّه جنون التاريخ هذا الذي قيل إنّه نهاية التاريخ، والذي يقال الآن إنّه ثوراتُ الشعوب، بعدما قيل بالأمس إنّه حتميّة التاريخ، وسوف يقال بعد قليل إنّه سقوط التاريخ!
جنون التاريخ هو ما تعيشه البشريّة هذه اللحظة، من القطب إلى القطب، ومن أقوى إنسان إلى أضعفه.
وإذا لم يكبح هذا الجنون جنونٌ أشدّ، جنونٌ خَيِّرٌ وأشدّ، فلن يبقى أحد ليبكي على أحد.



رحل وهو يظنّ

رحل صديقي وهو يظنّ أنّي شتمتُه.
كنتُ أشتم قريباً له أرهقني بأكاذيبه.
لكنّ الذات المتضخّمة لا تستوعب أن يُوجَّه كلامٌ خارج المألوف، إيجاباً أو سلباً، إلّا لها. فهي «ذاتٌ مرجعيّة».
لم يدُرْ في خَلَده أن الكلام يمكن أن يكون عن سواه وأنّه هو مُحكَّمٌ لا محكوم.
لكنّ سوء التفاهم سيّد الأحكام في سيرتي التي لم تؤلّف مفاصلَها إلّا حلقات لئيمة ودائماً أذكى من فريستها.





لا تقلب الصفحة

شبَّ في بيتي حريق فاضطررتُ أيّاماً للمبيت في منزل ابنتي ندى في بلدة رومية، المتن. شكراً أيّها الحريق، بفضلك اكتشفتُ أنّ شيئاً من لبناني القديم لا يزال موجوداً. غاباتٌ وأحراج وناس طيّبون. تجتاز الأوتوستراد السريع أو الطرق المألوفة كالمكلّس والمنصوريّة أو الفنار انطلاقاً من بيروت الصلعاء أو أيّ مدينةٍ أخرى جرداء بَلْقاء، محبَطاً كالموارنة الحاليّين محروماً كالشيعة السابقين مقهوراً كالسنّة الميتّمين حائراً كالدروز المطوَّقين، يائساً بفضل أدغال الباطون وقباحةِ مَدَنيّة المخدّرات والمسالخ وقطّاع الطرق والنوّاب والوزراء الفاسدين روحاً وجسداً وشكلاً ومضموناً، وفجأةً تصعد من الأوتوستراد أو تهبط من عين سعادة... إلى جنّة!
لا تقلب الصفحة، لن أحدّثك عن الطبيعة. لا وصف ولا دموع. فقط شكراً أيّها الحريق. كان لبنان الأخضر قد تحوّل في المدن كبراها وصغراها إلى أضحوكة، وها هي بلدةٌ متواضعةٌ تُغنّي وحدها قدّ الدنيا. تغنّي بكنوزِ أخضرها وضحكاتِ قرميدها وجماهير عصافيرها وأسماء أحيائها الطالعةِ من أعدال الجدود.
وأكيد مثلها كثير في جبالنا، ونحن المدفونين تحت نفيّات المدن المتوحّشة نجهل ما نخسر. نجهل الهواء الهواء والسماء السماء والشجر الشجر والثمر الثمر والله والإنسان.
شكراً أيّها الحريق المنقذ.



من رسائل بولس

«إذا كان الإنسان الظاهر فينا يَخْرَب، فالإنسانُ الباطنُ يتجدّد يوماً بعد يوم».

■ ■ ■


«فمَن يكون ضعيفاً ولا أكون ضعيفاً؟ ومَن تزلّ به القدم ولا أحترق أنا؟».

■ ■ ■


«لا تغربنَّ الشمس على غضبكم».

■ ■ ■


«لا تكونوا أطفالاً في الرأي، بل تَشَبَّهوا بالأطفال في الشرّ، وكونوا راشدين في الرأي».

■ ■ ■


«إنّ الزمانَ يتقاصر. فمنذ الآن ليكن الذين لهم امرأة كأنّهم لا امرأة لهم، والذين يبكون كأنّهم لا يبكون، والذين يفرحون كأنّهم لا يفرحون، والذين يشترون كأنّهم لا يملكون، والذين يستفيدون من هذا العالم كأنّهم لا يستفيدون حقّاً، لأنّ صورة هذا العالم في زوال».